إيران و«كسرى» الحائر بين سؤدد الفرس ودين العرب!

  • 4/12/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تبادر «دارة الأنصاري للفكر والثقافة»*، بالتعاون مع جريدة «الأيام»، كناشر حصري، بإعادة نشر بعض مقالات أ. د. محمد جابر الأنصاري «بتصرف»، وتحمل المقالات المختارة قراءة للحاضر من ماضٍ قريب.د. محمد جابر الأنصاريلمن يراجع أية موسوعة عامة، تبدو إيران مجرد دولة آسيوية متوسطة الحجم وذات دخل لا بأس به يحقق لها درجة طيبة من التقدم، إلا أن إيران «أعقد» من ذلك بكثير!وقد قال «مهيار الديلمي»، بعدما هجر دينه الفارسي القديم واعتنق الإسلام على يد الشريف الرضي، سليل عم النبي العربي، عندما كانت دولة بني العباس في أوجها وفارس واحدة من ولاياتها العديدة:قد ورثت المجد من خير أب وقبست الدين من خير نبيفجمعت المجد من أطرافه سؤدد الفرس ودين العرب!غير أن (سؤدد الفرس) و(دين العرب) لم ينسجما ضمن معادلة فكرية - شعورية متوازنة في التركيب النفسي الإيراني، بل بقيا -كالنار والماء- قطبي تجاذب وتصارع لا بد أن يتغلب أحدهما على الآخر في النهاية..وهذا جانب واحد من جوانب العقدة الفارسية. فقد كانت فارس امبراطورية عظيمة في الماضي. فقبل ظهور المسيح كانت إحدى القوى الرئيسة في العالم القديم. وقبل ظهور محمد «عليه أفضل الصلوات» كانت إحدى أكبر دولتين في الشرق. وقد غزت بلاد الاغريق، وغزت مصر وحققت في ظل الأكاسرة إنجازات حضارية لا تنكر.وفجأة -بقوة الحركة المحمدية الخلّاقة- انطلقت موجة الفتح العربي في شبه الجزيرة، فإذا بفارس الأكاسرة ولاية تابعة للمدينة.. ثم لدمشق.. ثم لبغداد...(طهران مربط خيلينا!).. عبارة رددها المتظاهرون العرب المنفعلون في بعض المدن العربية المشرقية يوم احتلت إيران جزر الخليج. وبعيدًا عن الحماسة العربية «الموسمية» تجاه قضايانا المصيرية، فإن إيران كلها كانت وظلت -لقرون عديدة- مسرحًا ومربطًا للخيل العربية!وتقول أحد مراجعهم التاريخية: «إن من مميزات الشخصية الإيرانية أنها احتفظت بكل مقوماتها وخصائصها برغم الفتوحات الأجنبية التي قطعت استمرارية تاريخها القومي.. وكانت الشخصية الإيرانية تبرز بعد كل محنة أقوى مما مضى».هذا القول يحتاج إلى تعديلات عدة، فيما يتعلق بآثار الفتح العربي؛ لأنه يكشف «عقدة العقد» في التاريخ الإيراني. صحيح أن إيران تعرضت لغزوات أجنبية عديدة، وأن جميع الغزاة مروا بها مرورًا سريعًا.. عدا الفاتحين العرب الذين كان تأثيرهم بالنسبة إلى التاريخ القومي الفارسي أكثر من مجرد ذكرى تاريخية «غير مشوقة»!فقد اعتنقت إيران الإسلام، وغدت حضارتها إسلامية في كثير من وجوهها، والتحم تاريخها عضويًا بالتاريخ العربي، وأصبحت المفردات العربية في اللغة الفارسية طوال (العصر الوسيط)، ولم تستطع التعبير عن ذاتها إلا بلغة قريش!أبوحنيفة والشافعي في الفقه.. أبونواس وبشار والديلمي في الشعر.. ابن سينا والغزالي في الفلسفة.. الجنيد، البسطامي، الحلاج في التصوف..وقد حاولت إيران أن تجعل من التشيع مذهبها القومي الخاص لكي تميز نفسها عن العرب. زائر عربي كان في طهران يوم عاشوراء. سأل سائق التاكسي الإيراني عن المناسبة، قال انها مناسبة استشهاد الحسين. سأل الزائر العربي: ومن قتل الحسين؟ فكان الجواب: قتله العرب! ولما سأل الزائر: ومن هو الحسين؟ كان الجواب بتردد وبلا حماس: إنه عربي أيضًا!المفهوم الإيراني للتشيع شيء يختلف تمامًا عن التشيع العربي الأصيل. وهذه حقيقة يشعر بها الشيعة العرب قبل غيرهم. هذا من حيث المذهب. وعلى الصعيد اللغوي جرت محاولات في عهد «رضا شاه» لكتابة اللغة الفارسية بالأحرف اللاتينية، وبالعودة إلى المفردات البهلوية القديمة، وكانت المحاولة أسوأ من فاشلة.وهكذا يغدو الجهد الإيراني الحديث لإخفاء الآثار العربية الواضحة في الحياة الفارسية جهدًا مصطنعًا يدفع إلى سلوك غير طبيعي وتصرفات عصبية في كثير من الأحيان. وهذا جانب يجب أن ينتبه إليه كل من يحاول دراسة سلوك إيران الدولي في الوقت الحاضر ومواقفها من العالم العربي، والخليج بالذات. فإيران دولة تجعلها عوامل عديدة لا تقنع بأن تقبع داخل حدودها. هناك حوافز تجعلها تبحث عن توسع، عن مكاسب، عن انتصارات مادية أو معنوية... هناك الحافز القومي الشعوري التاريخي المتصل بالأمجاد الكسروية الإيرانية الغابرة، وهذا يذكرنا بمواقف حزب «خاك وخون» أي -الأرض والدم- الذي وقف ضد الشاه في البرلمان الإيراني وصوّت نوابه ضد قرار الشاه نفسه بحل خلافه مع البحرين، برغم ما يعرف عن نواب الأحزاب الإيرانية جميعًا من «انضباط» تجاه مسائل السياسة العليا!وهناك الحافز المذهبي، حيث تحرص إيران في الميدان الاسلامي على إبراز ذاتها كدولة شيعية. وهي تتصرف باعتبارها (الموطن الشيعي) و(الممثل العالمي للشيعة)، وإن كان نجاحها موضع تساؤل.وهناك أيضًا الحافز السياسي - العسكري للنظام الإيراني بالتوسع الخارجي هروبًا من توطيد نظامه الداخلي من خلال الانفتاح الديمقراطي في ميدان السياسة الداخلية. وهناك الحافز الاقتصادي - التجاري، بحثًا عن أسواق جديدة للصناعات الإيرانية الناشئة التي تتعرض للمنافسة من أسواق الشرق والغرب.كل هذه الحوافز لا بد أن تخلق «شهوة» للتوسع، ليس بالضرورة بالفتح العسكري المباشر، وإنما بفرض النفوذ -بصورة أو بأخرى- والقيام بـ«دور تاريخي» معين يستثير الهمم الإيرانية ويلهب المشاعر الكسروية.وسيظل الخليج باستمرار العامل الأساسي في تكييف العلاقات العربية - الإيرانية. ففي هذه المنطقة بالذات سيتبيّن إن كانت الأمتان (الشقيقتان - اللدودتان) بالأمس، ستعيشان اليوم في تفاهم أم لا، طبعًا، ثمة عوامل أخرى متشابكة ومتناقضة تدخل في عملية تكييف العلاقات الثنائية بين إيران والعرب غير موضوع الخليج، لكنها جميعًا ستكون ثانوية قياسًا بما سيجري في منطقة الصدام الفعلي.فالخليج في الاستراتيجية الإيرانية هو (المجال الحيوي) المثالي لممارسة طموحاتها القومية والمصلحية. وإيران -بكل حوافز التوسع لديها- لا تستطيع أن تتوسع غربًا على حساب جارتها القوية - تركيا، ولا أن تمتد شرقًا على حساب جارتها وحليفتها الإسلامية الأخرى - باكستان. كما أنها لا تستطيع أن تحمل الرايات الكسروية لتعبر بها شمالاً، وتسترجع الأراضي السليبة من الجمهوريات الشيوعية. أما في الجنوب حيث دول الخليج والهلال الخصيب، فإن الأمر مختلف بصورة كلية!ففي هذه المنطقة تنفتح «الشهية الإيرانية» لفرض نفوذها بممارسة شتى أنواع التدخل في شؤون جوارها لتحقيق ما تصبو إليه من استعلاء قومي، ومجد سياسي، وتوسع اقتصادي، وامتداد بشري للإمبراطورية الفارسية الجديدة! فهل سننجح في دحر كسرى والحد من تمدده، فالاحتلال الإيراني للجزر الصغيرة في الخليج ليس نهاية الأمر بل بدايته، وما هذا الحدث غير مظهر بسيط من مظاهره.. وأني لأرى الخطر أبعد وأعم!*دارة «الأنصاري» للفكر والثقافة هي مؤسسة ثقافية تهدف إلى الحفاظ على إنتاج الدكتور الأنصاري وأعماله الفكرية والأدبية التي اهتم بها وركز عليها طوال مسيرته العلمية، وفي مقدمتها، التعريف بالجوانب المضيئة للحضارة الإسلامية والتراث العربي ومطالبته بصحوة فكرية وثقافية لأمة العرب، وإتاحتها للمختصين والمهتمين للبناء عليها وإثراءها. المقالة مقتبسة من كتاب الخليج.. ايرن.. العرب «وجهة نظر خليجية» قام الأنصاري بتأليفه في العام 1972.

مشاركة :