خلال الأيام الـ10 الماضية، كانت السياسات الدبلوماسية التي يتخذها الاتحاد الأوروبي تشبه إلى حد كبير التحزب المرير في واشنطن بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث تدنى اجتماع للقادة الأوروبيين إلى مجرد مواجهة مثيرة للجدل، استمرت خمس ساعات، وانتهت بتسريبات مريرة للغاية، وخطابات ساخنة، وإعلانات سياسية سلبية، ونداءات عامة متحمسة، وإشارات مريرة للحرب العالمية الثانية تملأ الآن الصحف الأوروبية. الشرارة التي أشعلت هذا الحريق كانت عبارة عن اقتراح قدمته تسع من دول الاتحاد، بقيادة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، للمضي قدماً في ما يسمى بسندات فيروس كورونا، التي من شأنها أن تمكن الاتحاد الأوروبي من التعامل اقتصادياً في ظل الأزمة. وعارضت هذه المبادرة على الفور دول شمال أوروبا، بقيادة المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، ورئيس الوزراء الهولندي، مارك روتي. ويبدو هذا الخلاف للوهلة الأولى حول السندات غامضاً، لكنه يمثل في الواقع صراعاً على مستقبل أوروبا. ويحقق اقتراح السندات الأوروبية المشتركة الهدف الذي يسعى الاتحاد الأوروبي لتحقيقه، وهو العمل الأوروبي المشترك في وقت هذه الأزمة، الذي يتلخص في أن دول الاتحاد ينبغي ألا تقف كـ27 دولة منفصلة، بل كدولة واحدة. الاتحاد الأوروبي المشترك سيستخدم سندات الدين لتسوية ما تكبدته الدول الأوروبية كأفراد، في محاربة هذه الأزمة كمسؤولية أوروبية جماعية. إصدار هذه السندات سيكون له آثار واسعة النطاق، إذ إن المضي فيها قدماً ستستتبعه زيادة هائلة في السلطة الفيدرالية للاتحاد. ويصف الخبير بمعهد بيترسون، جاكوب فونك كيركيجارد، هذه الخطوة بأنها «لحظة هاميلتون» الأوروبية، في إشارة إلى قرار الحكومة الفيدرالية الأميركية الشابة في عام 1790 بتحمل جميع الديون التي تكبدتها المستعمرات الفردية خلال حرب الاستقلال. كانت هذه خطوة حاسمة نحو إنشاء حكومة مركزية قوية في واشنطن. ثورة ضد الوضع الراهن خطوة تلك الدول التسع من أجل سندات مشتركة هي في الواقع ثورة ضد الوضع الراهن في أوروبا، لذلك كانت في صميمها ثورة ضد ميركل، والعقد الماضي من التقشف في أوروبا. لقد حظيت ميركل بقوة جبارة على نطاق واسع، سواء في الخارج أو في الداخل. وأشاد ملف شخصي لها حديثاً في صحيفة «فاينننشيال تايمز» بنهجها تجاه مكافحة «كورونا» محلياً، وأوضحت الصحيفة أيضاً أنها أصبحت دولياً «رمزاً للقيم الليبرالية الغربية التي استهزأ بها القوميون، مثل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب». لكن العديد من الأوروبيين يراها بشكل مختلف، حيث إن ميركل بالنسبة لهم أيضاً مهندس عقد من التقشف المدمر، الذي تسبب في دمار اقتصادي، وحرمان في معظم أنحاء القارة. وقد ساعد ذلك على تغذية صعود الحركات الشعبية اليمينية. الآمر.. الناهي بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، كانت ميركل، بصفتها رئيس الاقتصاد الأوروبي الرائد، هي الآمر الناهي. فقد كشفت تلك الأزمة عن أن العملة الأوروبية الجديدة (اليورو) بها عيب في التصميم. ففي حين أن الاتحاد الأوروبي كان لديه سياسة نقدية مشتركة خاصة ببنكه المركزي، كان يفتقر إلى سياسة مالية مشتركة، وبالتالي لم يكن في وسع الاتحاد الأوروبي تطبيق نوع من إجراءات التحفيز المالي الجريئة التي شهدتها الولايات المتحدة والصين. كان يمكن لميركل أن تضغط من أجل ذلك، ولكنها بدلاً من ذلك طالبت بالتقشف. عندما انهار الاقتصاد اليوناني، الذي كان يتأرجح على حافة التخلف عن السداد في عام 2009، قامت ميركل بإلقاء محاضرات على دول جنوب أوروبا حول التبذير، وحوّلت ما كانت أزمة يمكن التحكم فيها إلى صدمة نظامية لاقتصادات أوروبا. وفي الوقت الذي لم يكن فيه الاتحاد الأوروبي قادراً على سن تدابير التحفيز المحلية، منذ أن ظل العجز الذي فرضه اليورو دون 3% من الناتج المحلي الإجمالي، كان المسار الوحيد إلى الأمام هو التقشف المدقع، حيث عانت اليونان ركوداً اقتصادياً، وشهدت إسبانيا ارتفاع البطالة إلى 25%، وشهدت إيطاليا عبء ديونها وهو ينمو إلى مستويات غير مستدامة، وهذا هو السبب في أن جميع الخبراء الاقتصاديين عارضوا اعتماد اليورو. بلاء الحركات الشعبية وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أصبحت كارثة التقشف واضحة للعيان، وابتلي الاتحاد الأوروبي بالأحزاب والحركات الشعبية، وسعى القادة السياسيون الأوروبيون إلى الإصلاح، ودفعوا لتعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على تحفيز النمو، وبدا انتخاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في عام 2017 كنقطة تحول، وعرض عدداً من الاقتراحات، لكن ميركل رفضتها جميعاً. ومع اندلاع أزمة فيروس كورونا، بدا الأمر وكأن الاتحاد الأوروبي قد تعلم بعض الدروس. فقد علّق الاتحاد الأوروبي قواعد العجز الصارمة، وأعلن البنك المركزي الأوروبي، على الرغم من حدوث خطأ أولي قصير، بسرعة عن حزمة الإغاثة الضخمة (في تناقض حاد مع تردده في عام 2008). ومع ذلك، في ما يتعلق بالسؤال الأكبر حول ما إذا كان ينبغي لأوروبا أن تتحمل المسؤولية المشتركة عن الديون التي قد يتكبدها الاتحاد في الأزمة، فقد تمسكت ميركل بأسلحتها، وهذا يمثل مشكلة. ولكي نكون منصفين، فإن ألمانيا ليست العقبة الوحيدة أمام دول الاتحاد الأوروبي، ولكن الحكومات المحافظة الأخرى، مثل هولندا، تقف وراء ميركل. وميركل نفسها تحمل الاتحاد الأوروبي على ظهرها، فإن تحركت فستتحرك أوروبا جميعها. ميركل لديها القوة لتوحيد أوروبا، ووضعها على طريق الانتعاش الاقتصادي، لكنها ترفض. قلة من القادة الأوروبيين في التاريخ كانت لديهم القوة لتحريك أوروبا، ولم يفعلوا سوى القليل. السؤال الآن هو ما إذا كان الاتحاد الأوروبي قادراً على النجاة من هذا العناد. العديد من الأوروبيين يرى ميركل بشكل مختلف، إذ إن ميركل بالنسبة لهم أيضاً مهندس عقد من التقشف المدمر، الذي تسبب في دمار اقتصادي، وحرمان في معظم أنحاء القارة، وقد ساعد ذلك على تغذية صعود الحركات الشعبية اليمينية.ShareطباعةفيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :