دائمًا ما تقاس قوة وفاعلية الأنظمة السياسية ملكية كانت أو جمهورية، وما تتبناه من أنظمة اقتصادية تتنوع بحسب طبيعة النظام السياسي، كالرأسمالية، والشيوعية، والاشتراكية، أو غيرها، بقدرة هذه الأنظمة على الصمود في الأزمات، وتلبيتها لحاجات الشعب، وضمانها لأمن البلاد واستقرارها في جميع الأوقات والظروف، ليس فقط أثناء السلم. لقد كان النظام الاقتصادي الرأسمالي المطبق في أمريكا وبعض دول أوروبا يُعتَقد أنه هو النظام السامي والأمثل وعلى جميع دول العالم تبنيه. وكان في صراعات دائمة مع الأنظمة الاشتراكية والشيوعية، متهمًا إياها بأنها سبب تأخر دولها وشعوبها، وجرى العمل على فرض هذا النظام بالقوة على بقية دول العالم تحت مسميات العدالة والديمقراطية والحكم الرشيد، حتى جاءت المفاجأة الكبرى في حفل افتتاح أولمبياد 2008 في الملعب الوطني الأولمبي «عش الطائر» في الصين، وما تلاه من تنظيم لم يكن له مثيل في كل ما سبقه، ونجح في إبهار العالم أجمع. حينها بدأ أصحاب الأقلام المرموقة والسياسيون والاقتصاديون حول العالم في إثارة الجدل حول النظام الجمهوري الرأسمالي وما كانوا يدعونه حول عدم صلاحية الأنظمة الاخرى. ما فعلته الصين في ذلك الافتتاح المبهر دلالة كبيرة على أن الحكم والشعب قادران على الانتاج والمنافسة في إطار ما يختارون من أنظمة حاكمة تتناسب وطبيعة مجتمعاتهم. وتأتيني الذاكرة أثناء مناقشتي لأطروحة الدكتوراه عام 2005 في بريطانيا، حيث كانت الاطروحة تتمحور حول المشروع الإصلاحي لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وكيف تمكّن من تثبيت أركان نظام حكم ملكي دستوري مبني على مبدأ العدالة وليس فقط المساواة ... والفرق كبير... لأنه يعمل على ضمان حياة كريمة لكل أفراد المجتمع وينقل المملكة إلى صفوف الدول المتقدمة، ورغم اقتناع لجنة المناقشة بوجاهة المشروع الإصلاحي من الناحية النظرية والأكاديمية، إلا إنهم عمدوا إلى التشكيك الضمني في استدامة التجربة ونجاحها. لن أدخل في تفاصيل وشواهد كثيرة على نجاح المشروع الإصلاحي، ولن أعرِّج على التفاف الشعب حوله في ميثاق العمل الوطني، وصموده في وجه تدخلات خارجية عاتية حدثت في العام 2011، لكنني سأنتقل مباشرة إلى الوقت الحالي، أي بعد 15 عامًا على مناقشتي لأطروحة الدكتوراه، هذا الوقت الذي يجتاح العالم فيه فيروس خطير (فيروس كورونا «كوفيد 19») الذي وضع جميع أنظمة الحكم في العالم أمام امتحان حقيقي في مواجهته، وأنهكها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وهنا يبقى السؤال الباحث عن إجابة: من نجح في هذه المحنة؟! لقد أخفقت العديد من الدول الكبيرة والمتقدمة؛ لأنها لم تتخذ إجراءات احترازية سريعة ضد أخطار انتشار فيروس كورونا، بل اشتغل الساسة في صراعاتهم الجانبية لاستثمار الأزمة في رفع رصيدهم الشعبي، وهناك ساسة آخرون وضعوا اقتصاد دولهم كأولوية فوق صحة وسلامة الشعب، ولم يتم تطبيق جوهر أنظمتها السياسية والاقتصادية التي يُفتَرض أنها قائمة على حماية الإنسانية، حيث أخفت عن شعوبها خطر هذا الفايروس في سبيل عدم تدهور اقتصادها، حتى تفاقمت الأزمة وأصبح عدد الإصابات بمئات الآلاف وعدد الضحايا بعشرات الآلاف، وتُرك المرضى في الشوارع لأنهم لا يملكون تأمينًا صحيًا. ولم نرَ تفاعلًا كبيرًا من أفراد تلك «الدول المتقدمة» يرتقي إلى مستوى علمهم وحضارتهم، بل بقوا منساقين في ممارساتهم المعهودة حتى تفشى المرض بصورة قياسية غير متوقعة. ونجد في المقابل أن الأنظمة الخليجية وفي مقدمتها مملكة البحرين التي اختطت لنفسها نظام حكم انطلق من رؤية توافقية بين القيادة والشعب وخصوصية فريدة قائمة على ما يمتلكه المجتمع البحريني من مقومات اجتماعية وسياسية واقتصادية، أثبتت قدرتها مجددًا بأنها على مستوى التعامل مع أي حدث وسجلت إلى اليوم مؤشرات متعددة تشير إلى نجاحها في مواصلة احتواء المرض، ممهدةً بذلك الطريق لتصبح مثالًا يحتذى به وبشعبه الذي تفاعل مع حكومته في هذا الحدث الخطير. لقد تبين أن مملكة البحرين طبقت معادلة إنسانية دقيقة، وحرصت على سلامة المواطنين والمقيمين مع الإبقاء على الاقتصاد والأعمال والجهاز الحكومي يعمل ولو بالحد الأدنى لضمان عدم تعطل مصالح الناس، فمن الوهلة الأولى التي سمعت فيها البحرين عن وجود فايروس كورونا في الصين اتخذت اجراءات احترازية وتحفيزية كثيرة جدًا رغم التحديات الاقتصادية الجمة المتمثلة بشكل أساسي في تهاوي أسعار النفط. فقد وجه جلالة الملك لإطلاق حزمة مالية واقتصادية بقيمة 4.3 مليار دينار بحريني دعمًا للمواطنين والمقيمين والقطاع الخاص، ويتم حاليًا دفع رواتب المواطنين البحرينيين بالقطاع الخاص من خلال صندوق التعطل للأشهر (أبريل ومايو ويونيو)، وتكفلت الحكومة بفواتير الكهرباء والماء لكافة المشتركين من الأفراد والشركات، وحصلت المؤسسات التجارية على إعفاءات ومنح، وتم إعفاء المقيمين من رسم مراجعة المراكز الصحية، وتقديم منح مالية لمؤسساتهم لمساعدتها على دفع رواتبهم، وغير ذلك الكثير، وكل ذلك أسهم في إبقاء البطالة عند حدودها الطبيعية، فيما انفجرت أعداد العاطلين عن العمل في كثير من دول أوروبا وفي الولايات المتحدة. ووضعت البحرين خطة للتعامل مع فايروس كورونا في حال انتشاره، وجميعنا يرى الآن جهود الكوادر الصحية والطبية، فأعداد الأسرَّة التي جرى تخصيصها يفوق بمراحل أعداد الإصابات، وقد أجرت البحرين حتى الآن أكثر من 60 ألف فحص كورونا، وهي من أعلى النسب في العالم قياسًا لعدد السكان، كما خصصت أماكن مناسبة جدا للحجر الصحي، وصدرت قرارات حول منع الصلاة في المساجد، والتجمعات في الأماكن العامة، وغير ذلك من الإجراءات. الديمقراطية تعتمد على رضا الشعب. صحيح.. هل ثمة عاقل لا يرى مستويات الرضا المرتفعة جدًا عند البحرينيين في ظل ملكتيهم الدستورية، ومستويات الغضب عند شعوب الكثير من الدول الأوروبية والأمريكية في ظل أنظمتهم الديمقراطية المزعومة؟ عُذرًا لكل الدول المتزمتة لأنظمتها السياسية والاقتصادية، عُذرًا لمن خالف أطروحتي للدكتوراه واعتبر إصلاحات مملكة البحرين شكلية، فها نحن نرى أنظمة دول عظمى تترنح تحت ضربات فيروس كورونا، وتقارن ذلك بما تنجزه ملكتينا الدستورية من جهود تسهم في تطويق هذا الفيروس، ولربما أدركتم أن مفهوم حقوق الإنسان لديكم هو مفهوم قاصر، فيما نحن نبني من تجربتنا نموذجًا متجددًا لصيانة وحفظ حقوق الإنسان الأساسية في الصحة والتعليم والعمل والأمن والحياة الكريمة. هذه هي مملكتنا التي صنعت نموذج حكم فريدًا برزت نتائجه في هذا الامتحان الصعب حين تكاتفت كل مكونات الدولة والمجتمع للواجب الوطني وبيان مدى الانتماء والولاء والحب لقيادتنا وأرضنا.
مشاركة :