قبل رحيله، عام1921، بفترة قصيرة ، انتهى شاعر وأديب روسي في الحادية والأربعين من عمره، من كتابة مسرحية كان قد كلفه بكتابتها أديب الروس الكبير، آنذاك، مكسيم غوركي، وتحمل عنواناً وموضوعاً مأخوذين مباشرة من التاريخ الفرعوني المصري «رمسيس». ولكن وراء ذلك العنوان، ووراء مشاهد الحياة اليومية في الحضارة الفرعونية التي راحت المسرحية ترسمها، كان ثمة في العمل حداثة ومعاصرة واضحتان. كان من الواضح أن كاتب المسرحية إنما يتحدث عن بلده روسيا المتحول إلى اتحاد سوفياتي، وعن قضايا في منتهى المعاصرة مثل العمل، والبطالة، والحق في الإضراب، مع أن تلك المسرحية ذات الفصل الواحد كانت تعليمية كتبت لتخدم الدروس التي كان غوركي يعطيها لطلابه بعد الثورة. > ولأن مؤلف المسرحية، وهو ألكسندر بلوك، كان ثورياً متحمساً للثورة البولشفية القائمة، اختار في مسرحيته أن يتناول موضوعات تنتمي مباشرة إلى الحس الثوري الجديد. ولكن لأنه كان شاعراً، وشاعراً رمزياً بالتحديد، اختار أن يعود، في الزمان، إلى البعيد ليجعل مسرحيته تغوص في الزمان الفرعوني. ولكن قراءة متأنية للمسرحية، بل كذلك لكتابات بلوك الأخيرة، تضعنا أمام شيء من الحيرة: ترى ألم يعبّر بلوك، شاعر الثورة الأكبر، في «رمسيس» كما في قصائده الأخيرة، إن لم يكن عن خيبة إزاء الثورة التي ساندها وتحمس لها طويلاً، فعلى الأقل عن تساؤلات قلقة في شأنها؟ على الرغم من أن بلوك ساند الثورة وكان أحد مثقفيها المدللين، تروي أرشيفات الـ «كي. جي. بي» المكتشفة حديثاً بأن التشيكا اعتقلت بلوك في 1919 وأودعته السجن لليلة واحدة، فوجد نفسه في رفقة الكثير من الثوريين وغير الثوريين المغضوب عليهم مثله، وإذ ساد بين هؤلاء جميعاً سجال حاد حول الثورة وآفاقها، لاحظوا فجأة أن بلوك لا يشاركهم سجالهم، فالتفتوا إليه سائلينه رأيه، فإذا به يجيب بهدوء ومرارة: «كل ما تقولونه مسلّ ومفيد، ولكن أسألكم ما هو المكان الذي سيحوز عليه، في دولكم الثورية المستقبلية، المبدع ومهنته التي تحتاج منه إلى تجوال دائم؟» كان من الواضح أن بلوك، الذي آمن بالثورة طويلاً، كان قد بدأ بطرح أسئلته على دور المبدع في الدولة القائمة نتيجة لاندلاع الثورة، وهذا ما جعله يقول قبل موته المبكر آسفاً: «إن كل الأصوات توقفت. لم يعد هناك أي صوت...». > والحقيقة أن تلك المواقف إنما تأتي منسجمة مع مواقف أخرى كان بلوك قد عبّر عنها في كتابات له بعيدة من أعماله الإبداعية، كالنص القصير الذي كتبه عام 1919، والثورة بالكاد انتصرت محاولة أن ترمي الفردية والعواطف «البورجوازيتين» في مزبلة التاريخ. ولعل قراءتنا لبعض الفقرات الأساسية في هذا النص تكفي لتوضيح الأمور، حيث تحت عنوان «المعنى الخفي لمأساة عطيل» يكتب بلوك - في ترجمة للسوري يوسف الحلاق: «يعتبر الكثيرون مأساة شكسبير «عطيل» أكمل مؤلفاته، لا بل كان هناك أحياناً ميل لاعتبارها أكمل عمل درامي في العالم. ألا يعود انتشار هذا الرأي إلى أنه لا يوجد في هذه المأساة شيء جوهريّ إلا ويمكن أن يحدث في كل العصور وفي كل الظروف وفي كل البيئات؟ علينا ألا نقيم وزناً هنا للاصطلاحات الشكسبيرية القديمة الأثيرة لدينا جميعاً، فنحن نلاحظ بغض النظر عن هذا أن التصميم السيكولوجي للمأساة دقيق في شكل مثالي وصادق في شكل خارق للعادة، فليس هناك حاجة لحذف أو لإضافة شيء إلى هذا التصميم ليصبح أقرب إلى فهم أناس العصور الأخرى(...). «عطيل» شكسبير لن تشيخ إلا حين نتغيّر نحن، حين نبتعد عن الشمس ويبدأ الصقيع يدب في أجسادنا. وحين تبدأ من جديد، فوق هذه الأرض حركة ليست حركتنا- حين تزحف من القطب أنهار جليدية ضاربة إلى الخضرة. فلأيّ غرض كان تصوير خلجات النفس الإنسانية مثل هذا التصوير الفوتوغرافي، وبمثل هذا الصدق المروع؟ ولماذا نتصرف كالقردة؟ هل الفنان ليس سوى قرد الطبيعة البائس حقاً؟ ونتساءل أخيراً: هل تعوزنا حقاً في سنواتنا وأيامنا المجنونة هذه الصدمات والكوارث لنثير هذه الفوضى على خشبة المسرح أيضاً؟ لنمسك بيدنا مرآة نرى فيها وجهنا المحترق المتفحم وقد شوهته تكشيرة الألم؟(...). أو أن شكسبير الشيخ هذا لا يكتفي بمحاكاة الحياة في الحقيقة، لا يكتفي بإعادة تصويرها، بل يغيّرها بطريقة أو بأخرى، ويرينا أنها، وهي السوداء، الملعونة، التي لا معنى لها، مفعمة بمعنى ما، خفيّ؟ فإذا كنا نوافق على العمل في «عطيل»، هذا النتاج العتيق للإبداع الفني، وإذا كنا نعتقد أنه علينا أن نذكّر الناس به المرة تلو المرة، وإذا كنا نرى فيه بارقاً وهّاجاً قاطعاً قادراً على أن يشق هذه الظلمة البهيمة الرمادية الوثيرة الرخوة، وسواد الغيوم المخيّمة فوق النفس الروسية الكسلى العاطلة، الحقيرة وينيرهما، فعلينا نحن أن ندرك قبل كل شيء لماذا وباسم ماذا نفعل ما نفعل، وبماذا نأمل... علينا أن نرى بأم العين، أن كل هذا الهول الذي نصوره، يفتح أمامنا آفاقاً مشرقة لا حدود لها. علينا أن نظهر أن كل هذه القصة المتصلة بهذا المغربي غير الجميل، المنحدر إلى شيخوخته والذي يحب امرأة رائعة تكاد تكون فتاة يافعة أوفر منه شباباً بما لا يقاس، وتتمتع بكل الخصال الحميدة (وهذا لم ينقذها من ميتة قاسية لا معنى لها)، إن كل هذه القصة ليست كريهة (...). إننا نقرأ هذا ونفكر فيه في حين أن الشيء ذاته يحدث الآن طبعاً وفي كل مكان. فعلى ظهر البسيطة الآن من الجنود السخفاء ذوي القبضات القوية ومن الواشين الحقيرين الذين يفترون ويقومون بدناءاتهم، و «لأجل الفن» أكثر من أي شيء آخر، أكثر مما في أي وقت آخر...» > أجل هذا ما كتبه بلوك في تلك المرحلة الخطيرة منطلقاً من «عطيل» بيد أننا لو تحرّينا حياته ابتداء من 1918 لفوجئنا بالشاعر الثائر، وقد قبل أن يعمل محققاً ومخبراً في خدمة السلطة الجديدة. إذ إنه، لفرط حماسته لثورة اعتبرته بطلاً من أبطال الحرية، قبل وظيفة رسمية متناقضة مع طبيعته، وشارك خلال ذلك مجموعة كلفت بالتحقيق في نشاطات وممارسات سابقة قام بها وزراء الإمبراطورية! ويبدو أن هذه الوظيفة، أكثر من شعره، كانت ما جعله يفوز برضى السلطات البولشفية، ويعتبر واحداً من شعراء الثورة الكبار، ويؤبن لدى رحيله بوصفه واحداً من كبار المبدعين الثوريين الذين أنجبتهم روسيا، وتظل تلك هي سمعته وأهميته طوال عقود تالية من الزمن. فالحال أنه لو اكتفي بالنظر إلى ألكسندر بلوك من خلال شعره وحده لما استحق ذلك التكريم الرسمي أبداً. فالرجل كان رومانسياً رمزياً في شعره، الذي كان قد بدأ يكتبه، منذ اكتشف إمكانياته باكراً، حيث كان يدرس في ثكنة ويفكر طويلاً وعميقاً في مصائره الشخصية، هو المتحدر من أسرة تجاور فيها الجنون مع الثراء، وكانت رغم تأصلها في سان بطرسبرغ لا تنسى أبداً أنها ألمانية الأصل. ولقد كان بلوك في الثامنة عشرة من عمره حين كتب أشعاره الأولى وبدأ يدرس الحقوق التي سرعان ما تركها ليلتحق بكلية الآداب. أما المرة الأولى التي نشرت فيها قصائده فكانت في 1903، وهو العام نفسه الذي تزوج فيه. ولقد أصدر بعد عامين مجموعته الأولى بعنوان «قصائد السيدة الجميلة». ولقد استقبلتها الأوساط الأدبية الروسية بحماسة شديدة أضفت على الشاعر مجداً مكنه من أن ينشر بعد ذلك بسهولة وعلى التوالي، أشعاراً ومسرحيات مثل «كوخ المعرض» (1906) و «سرور غير متوقع» (1907) وهما كتبتا تحت تأثير خيبة أمله إزاء هزيمة ثورة 1905 التي كان آمن بها وناضل من أجلها بكل جوارحه. بعد ذلك لم يكفّ بلوك عن الكتابة، فأصدر «في ميدان معركة كوليكونو» (1908) ثم المسرحية الشعرية «الوردة والصليب» (1915). وهو بعد انتصار ثورة اكتوبر، انغمس في الكتابة مجدداً، لكن شعره ازداد رمزية وغنائية على عكس ما كان يمكن أن يتوقع منه، وكان من الواضح أنه، منذ اللحظة التي انتصرت فيها الثورة، كان قد بدأ يطرح على نفسه أسئلة حائرة ومريرة. ولم يكن موته شاباً في الحادية والأربعين غريباً عن حيرة وقلق أيامه الأخيرة.
مشاركة :