برحيل الدكتور شملان العيسى فقدت مدرسة العلوم السياسية العربية، اليوم، واحداً من أكثر أساتذتها شجاعة واستقامة وصراحة وخفة ظل، وفقدت جريدة «الاتحاد» واحداً من أبدع كُتابها. كان رجلاً زاهداً بسيطاً، غير مشغول بشيء سوى صدق ما يقوله، غير هياب ولا متردد، ولم يتخل في كل مقال، أو دراسة، أو ندوة، أو نقاش، عن إيمانه بحرية التفكير والتعبير والتدبير، وطالما طالب بتحديث النظم السياسية الخليجية والعربية، وكرس كثيراً من كتاباته ومداخلاته لتحقيق هذا الهدف، إلى جانب التصدي لأفكار المتشددين الدينيين، التي كان يرى أنها تمثل عقبة أمام تقدم أمتنا. رأيت د. شملان، للمرة الأولى، في تسعينيات القرن العشرين في القاهرة، يوم دعاه أستاذي الراحل د. كمال المنوفي، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة القاهرة، للمشاركة في ندوة. يومها شنفت السمع إلى رجل لا يشغله سوى قول ما يعتقد فيه، وفي الوقت نفسه يؤمن بحق الآخرين في نقده، بصدر واسع، متسامح، متقبل. كان يتحدث في حماس شديد، ناقداً كل شيء دون نقمة، وغيوراً على كل شيء دون حنق. فالرجل كانت لديه قدرة عجيبة على أن يجعلك تضحك حتى وهو يوجه سهام نقده وغيرته، وتوقن بأنه لا يريد من أحد جزاءً ولا شكوراً. كان الدكتور المنوفي، الذي أشرف على أطروحتي للماجستير وشارك في مناقشتي بالدكتوراه، معجباً به، لكنه، كأي مسؤول داخل الجامعة أو خارجها، لم يكن يستطع أن يترك العيسى منطلقاً بلا حد، لا يعنيه إن كان كلامه يحرج سلطة أو إدارة، إلا أنه في الوقت نفسه لم يكن قادراً على إخفاء محبته له، منذ أن تزاملا في قسم العلوم السياسية بجامعة الكويت، وحرصه على ألا يغضبه أو يظهر بموضع من يقهره، أو يكبت رأيه، أو يقمعه، فأشار إليه بلطف أن ينتهي، وكان بينهما، على ما بدا لي وقتها، رسول من المودة والتفاهم، فتوقف العيسى، والقاعة تضج بالضحك والتصفيق. بعدها التقيت د. شملان مرات عدة خارج مصر، تشاركنا خلالها في مؤتمرات وندوات، فوجدته على مدار كل هذه السنين لم يغير مبادئه، ولم يهادن لأجل مغنم، فهو كان راضياً بوحدته وخلوته واتساقه مع ما يقول وحدب الأصدقاء عليه، واعتبار كل من حوله أنه ليس مجرد فرد أو حتى أستاذ للعلوم السياسية، بل هو حالة خاصة جداً، على الذي يقترب منها أن يتعامل معها كما هي، ويأخذها بكل ما فيها، ويستمتع بجوانبها الإيجابية، وهي كثيرة. المرة الأخيرة التي التقيته فيها، كانت خلال شهر أكتوبر الماضي، في رحاب «منتدى الاتحاد» وهو فعالية سنوية تنظمها الجريدة لكتابها، فوجدت جسده قد نحل، لكنه لم يفقد روحه المرحة، ولا حلمه الدائم بعالم عربي أفضل، وهي قضية كرس لها كل كلامه، حتى على هوامش الندوات الجادة، وكثيراً مما يكتب في الصحف، وما يقوله لطلابه، الذين أحبوه. العيسى كان يترك لسجيته العنان في الكتابة والكلام، وكأي رجل ذكي نابه، صار عليه أن يمرر أقسى كلام في ركاب مزحة أو طرفة أو فكاهة، بل إن هذا الأستاذ المتميز كانت لديه مكنة في أن يثير المرح حوله وهو يتكلم في قضايا غاية في الجدية، وبلغة لا ينقصها العلم، ولا تعوزها المعرفة والرؤية والأمل، ولم يفقد في أي وقت بوصلته حيال هدفه الذي كرس له حياته، وهو التفكير بلا حد، والتنوير بلا حدود، والتحديث بلا أفق، دون فقدان للهوية أو ذوبان في الآخر، إنما فقط تفهم وإدراك لأهمية ما لديه، وحاجة العرب إليه. عاش العيسى لا ينتظر شيئاً من أحد، فرحمة الله عليه، كان إنساناً كبيراً، ترك بيننا فراغاً، ليس بما كانت في مخيلته من أحلام، ولا ما في رأسه من معارف، ولا حتى بروحه المرحة، إنما بتلك السجية الكاملة، التي سكنت لسانه كلما تكلم، وسكنت قلمه كلما كتب.
مشاركة :