هذا أوان تصور ما لا يمكن تصوره

  • 4/20/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقول لنا وهو يميل إلى الأمام على مكتبه في قصر الإليزيه في باريس، بعد تنظيف سطح وذراعي كرسيه بقماش مطهر: "نحن جميعا نشرع في تصور ما لا يمكن تصوره". حتى قبل الجائحة بقليل، كانت دائما لدى ماكرون خطط كبيرة بشأن المستقبل. بعد فوزه بالسلطة في انتصار مفاجئ في الانتخابات في عام 2017، أعلن الرئيس الفرنسي ذو النشاط المفرط، عاصفة من المقترحات الطموحة لإصلاح الاتحاد الأوروبي، حيرت شركاءه الأوروبيين الأكثر حذرا. عندما ترأس مجموعة الاقتصادات السبعة الكبرى في العام الماضي، حاول صنع سلام بين روسيا وأوكرانيا، فيما كانت حكومته تضع تشريعات بمنتهى القوة لتحديث فرنسا. بيد أن وباء فيروس كورونا دفع حتى ماكرون إلى أن يتلمس طريقه لإيجاد حلول لأزمة صحية عالمية أودت بحياة نحو 140 ألف شخص، ويتساءل عن كيفية إنقاذ الاقتصادين الفرنسي والعالمي من كساد مماثل لانهيار عام 1929. ماكرون يشخص الوضع يقول الرئيس الفرنسي: "نواجه جميعا الحاجة العميقة إلى ابتكار شيء جديد، لأن هذا هو كل ما يمكننا القيام به". لا تزال لديه خطط بالطبع، فهو يريد من الاتحاد الأوروبي إطلاق صندوق استثماري طارئ بمئات مليارات اليوروهات، يتعين من خلاله على الأعضاء الشماليين المترددين دعم إيطاليا وإسبانيا، حيث توفي عشرات الآلاف بفيروس "كوفيد - 19". ويريد من الدول الغنية مساعدة إفريقيا بوقف فوري لسداد الديون الثنائية ومتعددة الأطراف. ربما كانت هي المرة الأولى التي يبدو فيها ماكرون مترددا بشكل غير معهود، وغير متأكد ما إذا كانت مقترحاته ستؤتي ثمارها أو متى ستتحقق. يقول: "لا أعرف ما إذا كنا في بداية أو منتصف هذه الأزمة - لا أحد يعلم. هناك كثير من عدم اليقين، وهذا من شأنه أن يجعلنا متواضعين للغاية". إنها علامة على "التباعد الاجتماعي" وتعطيل السفر في الأوقات الوبائية غير العادية التي لا يملك فيها الإليزيه المشغول عادة سوى عدد من الموظفين الأساسيين في الموقع. محرر صحيفة "فاينانشيال تايمز" يحضر المقابلة عبر رابط الفيديو. يضطر ماكرون الذي يحب القرب عادة إلى تحية ضيوفه من بعيد، من داخل الغرفة الذهبية المزخرفة المطلة على مروج القصر نحو حدائق الشانزليزيه. تم استخدام هذه الغرفة لأول مرة كمكتب للرئيس الفرنسي من قبل الجنرال شارل ديجول. الانتصار على الجائحة مهما كانت التكلفة في خطابين للأمة قبل شهر، تبنى ماكرون عن عمد لهجة نموذج دوره الرئاسي، معلنا حربا شاملة على الفيروس بفرض بعض الضوابط الأكثر صرامة في أوروبا على حرية حركة الناس لإبطاء انتشار المرض، وصرح بأن حكومته ستنقذ الوظائف والشركات مهما كانت التكلفة. خلف مكتبه مثال مؤطر لسند إنجليزي - فرنسي لتمويل الحرب العالمية الأولى بقيمة 500 دولار من عام 1915. ومع ذلك فقد غاب في الأسابيع الأخيرة الخطاب العدائي، وحلت محله رؤية أكثر تدبرا لكيفية التعامل مع الوباء، مصحوبة باعترافات بالفشل اللوجستي الذي ترك الأطباء والممرضات والعمال الأساسيين الفرنسيين، في مواجهة نقص يائس من الكمامات والاختبارات لقياس انتشار الفيروس. على العكس من قادة العالم الآخرين، من دونالد ترمب في الولايات المتحدة إلى تشي جين بينج في الصين، اللذين يحاولان إعادة بلادهما إلى حيث كانت قبل الوباء، يقول ماكرون البالغ من العمر 42 عاما إنه يرى أن الأزمة حدث وجودي يهدد الإنسانية، من شأنه أن يغير طبيعة العولمة وهيكل الرأسمالية الدولية. بصفته زعيما أوروبيا ليبراليا في عالم من القوميين المتعصبين، يقول ماكرون إنه يرجو أن تؤدي صدمة الوباء إلى جمع الدول معا ضمن إجراءات متعددة الأطراف لمساعدة الدول الأضعف خلال الأزمة. ويريد استخدام كارثة دفعت الحكومات إلى إعطاء الأولوية لأرواح البشر على النمو الاقتصادي، كمدخل للتعامل مع الكوارث البيئية وعدم المساواة الاجتماعية التي يقول إنها كانت في الأصل تهدد استقرار النظام العالمي. كما أن الرئيس الفرنسي لا يخفي قلقه من أن العكس قد يحدث، وأن إغلاق الحدود والاضطراب الاقتصادي وفقدان الثقة بالديمقراطية، سيقوي يد السلطويين والشعبويين الذين يحاولون استغلال الأزمة، من المجر إلى البرازيل. ويقول: "أعتقد أنها صدمة أنثروبولوجية عميقة. أوقفنا نصف الكوكب لإنقاذ الأرواح، ولا توجد سوابق لذلك في تاريخنا". "ستتغير طبيعة العولمة التي عشناها طوال الـ40 عاما الماضية. كان لدينا انطباع بأنه لم تعد هناك حدود. كان الأمر برمته يتعلق بتداول وتراكم أسرع وأسرع. كانت هناك نجاحات حقيقية. تخلصت من الشموليين، وكان هناك سقوط جدار برلين قبل 30 عاما، ومع حالات من النجاح والفشل فقد أخرجت العولمة مئات الملايين من الناس من الفقر. بشكل خاص في الأعوام الأخيرة زاد عدم المساواة في الدول المتقدمة. وكان من الواضح أن هذا النوع من العولمة وصل إلى نهاية دورته، وهو يقوض الديمقراطية". عندما غضب ماكرون شعر ماكرون بالغضب عندما سئل عما إذا كانت الجهود غير المنتظمة للحد من جائحة "كوفيد - 19" لم تكشف نقاط الضعف في الديمقراطيات الغربية فحسب، بل إنها تسلط الضوء على مزايا الحكومات الأخرى مثل الصين. يقول إنه لا يمكن مقارنة الدول التي تتدفق فيها المعلومات بحرية، بالدول التي تقل الحريات فيها أو تنعدم: "بالنظر إلى هذه الاختلافات والاختيارات التي تم اتخاذها، وما الصين اليوم التي أحترمها، لا نريد أن نكون ساذجين لدرجة أن نقول إنها كانت أفضل بكثير في التعامل مع هذا. نحن لا نعرف. من الواضح أن هناك أشياء حدثت ولا نعلم عنها شيئا". يصر الرئيس الفرنسي على أن التخلي عن الحريات للتصدي للمرض سيشكل تهديدا للديمقراطيات الغربية. ويضيف في إشارة واضحة إلى المجر وقرار فيكتور أوربان بالحكم من خلال المراسيم: "تتخذ بعض الدول هذا الخيار في أوروبا. لا يمكننا قبول ذلك. لا يمكنك التخلي عن طبيعتك الأساسية على أساس وجود أزمة صحية". ماكرون قلق بشكل خاص بشأن الاتحاد الأوروبي واليورو. ضرب المكتب بيديه بشكل متكرر للتأكيد على نقاطه، ويقول إن كلا من الاتحاد والعملة الموحدة سيتعرضان للتهديد إذا لم يظهر الأعضاء الأكثر ثراء، مثل ألمانيا وهولندا، مزيدا من التضامن مع الدول المنكوبة بالوباء في جنوب أوروبا. يجب أن يأتي هذا التضامن على شكل مساعدة مالية ممولة بالسندات المتبادلة – وهي التي يمقتها صناع السياسة الهولنديون والألمان، الذين يرفضون فكرة سداد دافعي الضرائب في دولهم قروض اليونانيين أو الإيطاليين. يحذر ماكرون من أن الفشل في دعم أعضاء الاتحاد الأوروبي الأكثر تضررا من الوباء، سيساعد الشعبويين على الفوز في إيطاليا وإسبانيا، ولربما في فرنسا وأماكن أخرى. "من الواضح أن الناس سيقولون ’ما هذه الرحلة العظيمة التي يتقدمها الاتحاد الأوروبي. لن يحميك هؤلاء الناس في الأزمات ولا في أعقابها إذ ليس لديهم تضامن معك‘ في إعادة صياغة للحجج الشعبوية التي سيستخدمها السياسيون ضد الاتحاد الأوروبي عموما ودول شمالي أوروبا، بالذات. "’عندما يصل المهاجرون إلى دولتك، يطلبون منك الإبقاء عليهم. عندما يكون لديك وباء يطلبون منك التعامل معه. إنهم لطيفون حقا. إنهم يؤيدون أوروبا عندما تعني تصدير البضائع التي ينتجونها إليها. إنهم يؤيدون أوروبا عندما يعني ذلك أن يذهب عمالك إليهم وينتجون قطع غيار السيارات التي لم نعد نصنعها في دولتنا، لكنهم لا يؤيدون أوروبا عندما تعني تقاسم الأعباء‘". إعادة تحديد هوية الاتحاد بالنسبة إلى ماكرون يتحمل أعضاء الاتحاد الأوروبي الأغنياء مسؤولية خاصة في الطريقة التي يتعاملون بها مع هذه الأزمة. "نحن في لحظة الحقيقة، وهي تقرير ما إذا كان الاتحاد الأوروبي مشروعا سياسيا أو مجرد مشروع سوق. أعتقد أنه مشروع سياسي. نحن بحاجة إلى تحويلات مالية وتضامن، حتى ولو كان ذلك من أجل أن تصمد أوروبا". يجادل ماكرون بأن الأزمة الاقتصادية الحالية التي أثارتها الجائحة هي على أي حال خطيرة للغاية، لدرجة أن كثيرا من أعضاء الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو ينتهكون من الناحية العملية منذ الآن الأوامر المانعة في المعاهدات الأوروبية، لمساعدة الدولة للشركات. قدرة الحكومات على فتح الصنابير من المالية العامة والسياسة النقدية لدرء حالات الإفلاس الجماعي وإنقاذ الوظائف، ستكون ذات صلة بمستقبل ماكرون السياسي غير المؤكد في فرنسا. حيث إن من المتوقع أن يتقلص الاقتصاد الوطني بنسبة 8 في المائة هذا العام، واستمرار تلقى الملايين من العمال المسرحين مؤقتا الرواتب بفضل مخطط "البطالة الجزئية" الرسمي الذي تبلغ قيمته 24 مليار يورو، تتوقع الحكومة عجزا في موازنة 2020 بنسبة 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية. على الرغم من أنه غالبا ما يحتفل به في الخارج من أجل موقفه النشط في الليبرالية الدولية، إلا أن ماكرون عومل من قبل الخصوم المحليين من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين - بما في ذلك متظاهرو السترات الصفراء المناهضون للمؤسسة السياسية - بصفته رئيسا للأثرياء ومصرفي استثماري عمل سابقا في بنك روتشيلد، يريد فرض رأسمالية السوق الحرة على مواطنيه المترددين. وتيرة الإصلاحات وعين على الانتخابات في الواقع، كان ماكرون قد بدأ في الأصل في إبطاء مسيرته الإصلاحية قبل الوباء، في مواجهة معارضة شديدة من اليسار المتجدد ومن بقايا حركة السترات الصفراء. بعد فترة عامين نشطين في تحرير سوق العمل وتخفيف العبء الضريبي على العمال وأصحاب المشاريع، ومحاولة تبسيط أنظمة التقاعد المكلفة في فرنسا، تراجع العام الماضي عن تقليص حجم الخدمة المدنية، ثم علق في الشهر الماضي الإصلاحات بالكامل طوال استمرار أزمة فيروس كورونا. حاول تبني القضايا البيئية وتخفيف صورته لاجتذاب اليسار والخضر قبل انتخابات 2022 التي يرجو أن تكون جولة أخرى من الجولة الثانية ضد مارين لوبن، زعيمة "حزب التجمع الوطني" اليميني المتطرف. قد يوفر "كوفيد - 19" فرصة لإثبات حجة أنه يحاول إضفاء الطابع الإنساني على الرأسمالية، وهذا يشمل في رأيه وضع حد لعالم "مفرط التمويل" وبذل جهود أكبر لإنقاذ الكوكب من ويلات الاحتباس الحراري، وتعزيز "السيادة الاقتصادية" الفرنسية والأوروبية من خلال الاستثمار في القطاعات الصناعية مثل بطاريات السيارات الكهربائية، والآن بالذات المستلزمات الطبية والأدوية التي أصبح فيها الاتحاد الأوروبي مفرط الاعتماد على الصين. يقول ماكرون إن هناك إدراكا بأنه إذا كان بإمكان الناس فعل ما لا يمكن تصوره لإنقاذ اقتصاداتهم لإبطاء الوباء، فيمكنهم فعل الشيء نفسه لوقف تغير المناخ الكارثي. أصبح الناس يدركون "أنه لا أحد يتردد في اتخاذ خيارات عميقة ووحشية عندما يتعلق الأمر بإنقاذ الأرواح. إنه الشيء نفسه بالنسبة إلى مخاطر المناخ. الأوبئة الكبرى لمتلازمات الضائقة التنفسية مثل تلك التي نعيشها الآن كانت تبدو بعيدة جدا، لأنها كانت تتوقف دائما في آسيا. حسنا، تبدو مخاطر المناخ بعيدة جدا لأنها تؤثر في إفريقيا والمحيط الهادئ، ولكن عندما تصل إليك، فهي بلا شك لحظة قول: حان وقت الاستيقاظ". شبه ماكرون الخوف من الاختناق الذي يأتي مع "كوفيد - 19" بتأثيرات تلوث الهواء. ويقول: "عندما نخرج من هذه الأزمة، لن يقبل الناس تنفس الهواء القذر. سيقول الناس: ’نحن لا نتفق مع اختيارات المجتمعات كي نتنفس مثل هذا الهواء، سيصاب أطفالنا بالتهاب الشعب الهوائية بسببه. وتذكروا أنكم أوقفتم كل شيء من أجل هذه الجائحة، ولكنكم الآن تريدون أن تجعلونا نتنفس الهواء السيئ!‘". مثل بعض أسلافه - وخلافا لبعض نظرائه في الديمقراطيات الغربية الأخرى - فإن ماكرون مؤدلج بشكل صريح، وهو دائما مليء بالأفكار والمشاريع التي تثير الانزعاج في بعض الأحيان، لدى نظرائه الأوروبيين الأكثر رصانة. جولة في مكتبة الرئيس من بين الكتب التي تراكمت بشكل عشوائي - أو ربما بشكل فني - وراء مكتبه، هناك أعمال الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران والبابا فرانسيس، والرسائل التي تبادلها فلوبير وتورجينيف، وبضع نسخ من السيرة الذاتية لماكرون، "الثورة: التصالح في فرنسا"، الذي أعده للحملة الانتخابية لعام 2017. ومع ذلك، عندما سئل عما تعلمه من القيادة، اعترف بصراحة أنه من السابق لأوانه معرفة إلى أين ستقودنا هذه الأزمة العالمية. يقول ماكرون إن لديه قناعات عميقة بشأن بلاده وأوروبا والعالم والحرية والديمقراطية، ولكن في النهاية فإن الصفات المطلوبة في مواجهة مسيرة الأحداث اللدودة هي التواضع والتصميم: "لم أتخيل شيئا قط لأنني كنت دائما أضع نفسي في أيدي القدر. يجب أن تكون متاحا لمصيرك. لذلك أجد نفسي على استعداد للقتال والترويج لما أؤمن به، بينما أكون متاحا لمحاولة فهم ما يبدو أنه لا يمكن تصوره". دفعت الجائحة ماكرون إلى تلمس طريقه لإيجاد حلول لأزمة صحية عالمية أودت بحياة نحو 140 ألف شخص الزعيم الفرنسي الشاب يتساءل عن كيفية إنقاذ الاقتصادين الفرنسي والعالمي من انهيار مماثل لكساد 1929 العظيم يريد ماكرون صندوق استثمار بمئات مليارات اليوروهات يموله شمال أوروبا لدعم إيطاليا وإسبانيا المنكوبتين بشدة لا تغفل عن باله مساعدة الدول الغنية لإفريقيا بوقف فوري لسداد الديون الثنائية ومتعددة الأطراف إلى حد الإعفاء

مشاركة :