إعداد: بنيمين زرزور فرض انتشار فيروس «كوفيد-19» أو مايعرف ب «كورونا المستجد» على مفكري العالم حالة من حالات إعادة النظر والتأمل فيما يمكن أن يؤول إليه حال العالم جراء المحاكمات اليومية لأداء القطاع الصحي ومن ورائه الحكومات في مختلف دول العالم، بعد اختفاء مصطلح الضجيج من قاموس حياتنا اليومية، وسط الحجر المنزلي والهدوء الذي ساد أغلب شوارع المدن بمختلف دول العالم، ما جعل كوكب الأرض يتنفس الصعداء من عبث بني البشر. وفيما تؤكد تجارب التاريخ أن المحن تلد المنح، يرجح المهتمون بما يجري أن ينتج عن الوباء وتبعات تفشيه صحياً واقتصادياً، إعادة كتابة عقد الحكومة الاجتماعي في مختلف دول الغرب على قاعدة «امنح ثقتك لمن يضمن سلامتك»، بعد أن ملأ الخوف من مواجهة الموت كل مكان، وتوجهت أصابع الاتهام في كل اتجاه. وقد تناولت صحيفة بلومبيرج تبعات هذا الفيروس من زاوية الحكم على أداء حكومات الغرب الليبرالي مقارنة مع تجارب تاريخية ومعاصرة. في عام 1651، نشر الباحث توماس هوبز صاحب مقولة «أنا والخوف توأمان»، أحد أهم الكتب عن دور الحكومة. فقد نجا توماس من الحرب الأهلية الإنجليزية التي سجلت رقماً قياسياً في سفك الدماء، بالفرار إلى فرنسا - وكانت سلامته الشخصية محور إدراكه الفلسفي الفائق. ولاحظ هوبز أن «دولة الغابة» هي دولة «انفرادية، بائسة، رديئة، موحشة وقصيرة الأجل» لأن الناس فيها يعيشون حالة حرب دائمة. لذلك قال إنه يجب على المواطنين التنازل عن حرياتهم بالتراضي لحاكم يمكنه أن يوفر لهم الحماية. تعتمد شرعية الدولة على الوفاء بهذا العقد والحفاظ على مواطنيها في أمان، وهي فكرة ثورية، في وقت ادعى الملوك مثل تشارلز الثاني، تلميذ هوبز أن سلطتهم مستمدة من الحق الإلهي. بالنسبة لهوبز، الذي نجح أيضاً في النجاة من الطاعون العظيم في 1665-1666 وتوفي في فراشه في سن 91، فإن عقدنا الاجتماعي والسياسي مع الملك «ليفياثان»، كما سماه كتابه، يعتمد على قدرته بالحفاظ على سلامتنا. الحكومات والجائحة لو كان هوبز على قيد الحياة اليوم، لكان الشعور ببراءة الذمة يملؤ قلبه. ففي جميع أنحاء العالم، يتزايد الخوف تباعاً. ومن أجل الحماية من هذا الفيروس الرهيب، فإننا نتنازل طواعية عن الحقوق الأساسية، حتى حرية مغادرة منازلنا، للحاكم «ليفياثان». لقد عززت جائحة (كوفيد 19) أهمية الحكومات مرة أخرى. وليس فقط ضرورة أن تكون قوية مرة أخرى، ولكن حيوية أيضاً.لقد تبين بالتجربة الحالية أنه من المهم للغاية أن تتوفر في بلدك خدمات صحية جيدة وبيروقراطيون أكفاء وأموال وفيرة.لقد صار الفارق بين الموت والبقاء على قيد الحياة رهنا بوجود «حاكم جيد». منذ زمن هوبز، أصبح العالم دائرة متكاملة. عندما ألف كتاب «ليفياثان»، كانت الصين مركز الإشعاع الحضاري والتفوق الإداري وليس أوروبا. كانت الصين أقوى دولة في العالم وفيها أكبر مدينة في العالم (كان في بكين أكثر من مليون نسمة)، وأقوى سلاح بحرية في العالم، وفيها الخدمات المدنية الأكثر تطوراً، وكان بين سكانها علماء الماندرين الذين يتم اختيارهم من كل أصقاع الإمبراطورية الشاسعة بعد اجتيازهم اختبارات صارمة. كانت أوروبا ساحة معركة ملطخة بالدماء تحكمها العائلات الإقطاعية المتنافسة، حيث توزع الوظائف الحكومية بالنسب أو تباع وتشترى مثل الأثاث. ثم تفوقت الدول القومية الجديدة في أوروبا تدريجيا على مملكة الصين التي تنتمي إلى القرون الوسطى، بعد أن مرت القارة بسلسلة من الثورات التي غذتها الأفكار السياسية والتنافس الوطني - ومنها أفكار هوبز. وبعد إتقان فن الحكومة بما في ذلك استنساخ نموذج علماء الماندرين، سيطر الغرب على العالم لمدة 400 عام. واليوم بات النموذج الغربي في الحكم موضع شك وتساؤل. وللتأكد من ذلك اسأل نفسك ببساطة عما إذا كنت تشعر بالأمان اليوم أكثر في نيويورك ولندن، أم في سنغافورة وسيول؟ ربما تقول إن آسيا تقلد الغرب، لكنها تفوقت عليه في بعض البلدان الصغيرة إلى حد كبير لأن آسيا الكونفوشيوسية على وجه الخصوص، أخذت الحكومة على محمل الجد على مدى العقود القليلة الماضية بينما تحجر النموذج الغربي في الحكم. «تأميم الحكومات القومية» القطاع العام في الغرب على سبيل المثال لا الحصر متأخر بعقود عن القطاع الخاص من حيث الكفاءة والديناميكية. وقد قال لينين ذات مرة: «هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع يحدث فيها ما أغفلته تلك العقود». وأزمة (كوفيد-19) هي نموذج للحدث الذي يسرع مجرى التاريخ. إذا استجابت الحكومات الغربية بشكل مبدع للأزمة، فستتاح لها فرصة لتعويض عقود من التراجع. أما إذا تدهورت في الوقت الذي تستمر فيه آسيا في التحسن، فإن احتمال وجود نظام عالمي جديد يسيطر عليه الشرق سيزداد بالتأكيد. في عام 2014، نشرنا كتاباً حول دور الدولة بعنوان «الثورة الرابعة: السباق العالمي لإعادة اختراع الدولة». عندما ننظر إلى الماضي القريب، خاصة من خلال نظارات «كوفيد -19» الملونة، نجد أن هناك فهماً صحيحاً، وآخر خاطئ. أما الفهم الصحيح فهو اعتقادنا أن الحكومة كانت مصدراً حيوياً للميزة التنافسية وأن الغرب يتراجع. لكننا أخطأنا عندما اعتقدنا أن الدول الغربية سترد على نهوض الصين من خلال تحديث حكوماتها، ووضع الخلافات الصغيرة جانباً واستنساخ تجارب البلدان الصغيرة مثل سنغافورة. لكن الذي حدث أن الغرب وفي جميع مجالات الحياة، لجأ إلى تكتيك «تأميم الحكومات القومية»، والذي تزعمه كل من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما نقل الاهتمام ببرامج الإصلاح إلى المراكز الخلفية. وفي أوروبا كلها، لم يكن هناك أي تغيير: لقد نجا الاتحاد الأوروبي من أزمة اليورو ثم خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون أي محاولة جادة لتطوير الذات. إعادة اختراع الدولة هل توفر أزمة «كوفيد-19» الدافع أو الحافز لتغيير الأداء السلبي؟ لا تبدو الدلائل مبشرة للوهلة الأولى. فقد وصلت المستشفيات إلى طاقتها القصوى بسرعة مرعبة. ففي مدينة نيويورك، مركز الرأسمالية العالمية، يرتدي الأطباء نظارات تزلج بدلاً من الأقنعة، ويستخدم الممرضون أكياس القمامة بدلاً من العباءات الواقية. وأهدر الاتحاد الأوروبي أياماً عديدة بعجزه عن اتخاذ القرار حول ما يجب فعله، وكالعادة، تم إنقاذه من قبل البنك المركزي الأوروبي بطباعة النقود. في المجر وبولندا، حاول الحكام غير الليبراليين الاستيلاء على مزيد من السلطات. وفي جميع أنحاء الغرب، هناك نقص في الاختبارات التي لا بد منها لمعرفة المصابين بالفيروس من غيرهم. ولو نظرنا عن كثب سنجد مؤشرات أكثر إيجابية. فالدول التي أعادت التفكير في دورالحكومة، مثل الدنمارك، أو أجرت تقييما للتقاليد الحكومية الحديثة ذات القيمة الحقيقية، مثل ألمانيا، تتعامل مع الفيروس بشكل أفضل مقارنة ليس فقط مع الدول الغربية التي كان أداؤها مزريا، مثل الولايات المتحدة وإيطاليا، ولكن أفضل حتى من حكومة الصين. وغالبا ما ينتج عن ضغوط الوباء ابتكارات مثيرة للإعجاب، مثلما ينتج عنها الارتباك الفوضوي. فالغرب يملك التكنولوجيا والخبرة الإدارية والتقاليد الليبرالية لإعادة اختراع الدولة. واليوم توفر له سبب لا جدال فيه هو الاختيار بين الحياة والموت،للتحرك على هذا الصعيد. 3 ثورات للحكومات الغربية تاريخياً يمكن القول إن الحكومة الغربية مرت بثلاث ثورات كبيرة على الأقل، مدفوعة في كل حالة بأفكار جديدة وتكنولوجيا جديدة وتهديدات جديدة. الثورة الأولى، وهي التي كانت مصدر إلهام هوبز، أسفرت عن إنشاء الدولة القومية التنافسية. في تلك الحقبة فرضت ممالك أوروبا النظام في وقت واحد على البارونات الإقطاعية في الداخل بينما تتنافس مع بعضها البعض من أجل السيادة في الخارج. في الواقع، كان النضال من أجل إتقان دور الحكومة في أوروبا هو الذي طور نموذج الحكومة الغربية. واستولت ممالك أوروبا على الابتكارات التكنولوجية - خاصة السفن والأسلحة الجديدة - لتحسين فرص بقائها. فعندما اخترع الصينيون البارود استخدموه للألعاب النارية. بينما استخدمه الأوروبيون لتفجير بعضهم البعض. حدثت الثورة الثانية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وارتكزت تعاليم مفكرين مثل آدم سميث وجون ستيوارت ميل في بريطانيا، وتوماس جيفرسون وجيمس ماديسون في أمريكا، على ضرورة أن يفسح النظام الملكي الفاسد المجال للكفاءات الليبرالية. سمحت التقنيات الجديدة مثل السكك الحديدية والاتصالات، للدولة أن تفعل المزيد بتكلفة أقل. وتميز الليبراليون البريطانيون بشكل خاص. فقد انخفض الدخل الضريبي الإجمالي من 80 مليون جنيه إسترليني في عام 1816 إلى أقل من 60 مليون جنيه إسترليني في عام 1846، في حين بنى الفيكتوريون المدارس والمستشفيات وأنظمة الصرف الصحي التي لا تزال بريطانيا تستخدمها حتى الآن. فرض الليبراليون التوازن من خلال التخلص بلا رحمة من المخطئين، وإقالة غير الأكفاء، وفتح وظائف الخدمة المدنية لمن يستحقها. وهكذا نجحت حكومة صغيرة في جزيرة بحرية في السيطرة على ثلاثة أرباع العالم. اعتقد الفيكتوريون مثل رئيس الوزراء الليبرالي وليام جلادستون أنه من الممكن جعل الحكومة أكثر فائدة وأصغر حجماً في نفس الوقت - وهي فكرة فقدها الغرب للأسف. بدأت الثورة الثالثة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - وأرست أسس دولة الرفاهية التي يعيشها الغرب الآن. كانت كلمة السر هي الأمن مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت المواجهة مع الأمراض والكوارث وعدم المساواة، بدلاً من الحروب الأهلية والطاعون. أنتجت الثورة في نهاية المطاف إبداعات طموحة مثل مجتمع ليندون جونسون العظيم والديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، ولكن نقطة انطلاقها قبل قرن كانت مزيجاً مألوفاً من القوى هي التقنيات الجديدة؛ والأفكار اليسارية الجديدة حول العدالة الاجتماعية؛ وتهديد تنافسي جديد (مصدره ألمانيا موحدة وطموحة). في الواقع، اعتقدت شخصيات أكثر تحفظًا، بما في ذلك ونستون تشرشل، أن التعليم الجماعي والرعاية الصحية ضروريان لإنتاج قوة قتالية قادرة على خوض الحرب الحديثة. نصف ثورة في وقت متأخر من الستينات، كان العديد من الناس في الغرب لا يزالون يعتقدون أن الحكومة يمكن أن تضمن المزيد من المزايا. كانت أمريكا تستهدف غزو القمر (ووصلت إلى هناك) أثناء إعادة بناء أوروبا القارية. ومنح الناس ثقتهم للخبراء لإصلاح كل شيء. ولكن بعد كارثة فيتنام (التي صنعتها أمريكا النموذج الحضاري الأبرز) وكارثة أزمة الطاقة، بدأت الثقة بالحكومة تتراجع. من هنا لجأ صانعو القرار السياسي إلى المفكرين الليبراليين، مثل فريدريك هايك وميلتون فريدمان، الذين منحوا الثقة لقوى السوق بدلاً من البيروقراطيين المستنيرين، من أجل إصلاح الأشياء، واعتقد الباحثان أن الناس كانوا يتنازلون عن الكثير من الحريات لتحقيق مكاسب هامشية تقتصر على الرفاهية. ولدت هذه الأفكار نصف ثورة في ثمانينات القرن الماضي، عندما تحدى كل من مارجريت تاتشر ورونالد ريجان، دولة الرفاهية. وتمت خصخصة بعض مهمات «ليفياثان» حسب مقتضيات المرحلة، وتم تخفيض الضرائب. لكن الأرقام تظهر أن ذلك النموذج أصيب بعسر الهضم ولم يتبع نظاما غذائيا ناجحا. في الوقت الحاضر، تستهلك الدولة في الغرب حوالي 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 10٪ في بداية القرن العشرين. وانتشرت الدولة التنظيمية على جانبي الأطلسي، فأنت بحاجة إلى ترخيص لتصبح مصفف شعر في فلوريدا. وفي الاتحاد الأوروبي، تحيط بروكسل نفسها مثل العنكبوت بشبكة من الروتين.
مشاركة :