قبل عشرين عاما عملت تحقيقا صحافيا كان بمثابة استطلاع بين عينة من البريطانيين عن البكاء! لم يتذكر أحد منهم آخر مرة بكى فيها إلا ممثل مسرحي قال لي عندما توفي والده. كنت أحاول إيجاد معادل موضوعي بريطاني لمفهوم البكاء في المجتمع العربي، في زمن بكّاء بامتياز. بالفعل نشر التحقيق ولم أنجح في شيء بقدر الانتقاد الذي وصلني من القراء العرب، فتحول الأمر في نظرهم إلى “دمائهم الباردة”! وقلوبنا الرحيمة الرقيقة التي سرعان ما تبكي، أما قلوبهم فصلبة قاسية لا تعرف البكاء. ولا أحد من القراء العرب علق على المعادل الموضوعي بين بكائنا وبكائهم الذي كنت أبحث عنه في التحقيق، خذ مثلا جورج أوزبون الذي كان وزير المالية في حكومة ديفيد كاميرون، ظهر على الشاشات يذرف الدموع في جنازة مارغريت تاتشر. بينما في واقع الأمر أن الأساسيات في مكنون الإنسان تبقى هي نفسها، سواء كنت عربيا أو بريطانيا، طبيبا أو محاميا، زعيما أو فلاحا. استعدت فكرة سؤال “هل تتذكر آخر مرة بكيت فيها” التي أطلقتها على بريطانيين قبل سنوات على أمل إيصال دلالتها إلى القارئ العربي، مع صدور كتاب جديد كان موضع احتفاء من قبل صحيفة فايننشيال تايمز، حمل عنوان “كيف تذهب إلى العمل: لا أحد يعطيك نصيحة صادقة في بداية حياتك المهنية” للمؤلفين لوسي كلايتون وستيفن هينز. ما أثار انتباهي في هذا الكتاب ليس الفكرة الرائعة التي ذهب إليها المؤلفان في تحطيم الأساطير السائدة بوصفها حكما مقدسة مع أنها غالبا ما تكون ضارة “لا يهم ما تعرف، وإنما من تعرف”، بل ما شدني ذهاب المؤلفين إلى ذرف الدموع بوصفه حلا، وأن البكاء في كثير من الأحيان لا يكون قرارا طوعيا، مع أنه مرتبط بالإحباط العاطفي وفق فكرة “الإيمان التام بالذات”، وليس بالحزن كما يحدث غالبا في مجتمعاتنا العربية. البكاء وفق لوسي وستيفن حقيقة بشعة وإن اختلى المرء بنفسه من أجل ذرف الدموع دون أن يراه أحد. البعض يرى البكاء كنقطة ضعف، وبالكاد ينظر إلى غير الضعفاء ذرف قدر من الدموع. ماذا إذا سقطت دموع أحدهم في قاعة اجتماع، إننا نبكي في قاعة سينما عندما نشاهد فيلما ولا نهتم بما يراه الآخرون عنا، لكن ذرف الدموع بين الزملاء في العمل، هو نقطة ضعف قد تحطم من صلابتنا في المستقبل وتصعب إعادة تقويمها بنظر الآخرين. يشير المؤلفان إلى أنه في حين أن ذلك قد يكون علامة على أنك بحاجة إلى معالجة مشكلة خطيرة – التي ستستغرق وقتا – إلا أن الأمر قد يكون ببساطة مجرد يوم سيء فعلا. نحن جميعا نتعرض لذلك.
مشاركة :