ربما لأول مرة تتنفَّس الأرض تمدداً حين لملمت «الجائحة» الناس في صناديق أسمنتية، وانفردت تتمطى.. فما بين الجار والجار ما بين مدينة، وأخرى! يا للمسافات من لغة، يتهجى حروفها الإنسان طفلاً في محضن حالة طارئة يلثغ أبجدية مفاجآتها، إذ باغتته، أذهلته، شغلته، وأقصته.. ربما ينفك من قبضة الأبواب لمنفذ نافذة يتأمل جناح عصفور طليق.. يشهق: ليتني هذا الكائن لأتخطى.. فقيدُ حركتِه في الحالة، مشيئة إرادية لا خيار له عنه حين يكون لقدميه أن تتخليا عن المسافات، أن تتقلصا في المشي، أن تهبا حريتهما في براح المسافات، لأجنحة العصافير، وأسراب النمل، وقطعان الغيوم، وقوافل النسيم، ومرامي الصدى.. ربما لأول مرة لا يكون للمنعزل قبل العزلة فرصة لأن يتمتع بعزلته في حيز رغبته.. ربما في عزلته تتمرَّد فيه رغبته لأن يكسرها.. محض تمرّد حين انصاع إليها قسرا.. وحده في عمق الحالة الصغير الذي لا يدرك المسافة، الذي لم يتعرَّف بعد الفارق بين مشيئة الذات التلقائية، ومشيئة الحالة الفرضية.. وحده هذا الكائن الفطري من يقفز عند الباب لينطلق.. يبكي ليذهب نحواً واسعاً من المسافة.. يهفو للعبة في متجر مزخرفة، لقطعة حلوى يلتقطها بيده.. لدواليب تطوح به في فضاء ملهاه.. الصغير هذا وحده السعيد، فراغ ذهنه من ثقل التفكير نقي صدره من عبء الحالة.. وحده يحلِّق برغباته في مساحاتها الشاسعة.. ينام قرير العين بين يديه لعبته، وحلم بموعد باكر لمتجر الألعاب!..
مشاركة :