حين نكفُّ عن تحمل أنفسنا نقيس النهارات بالمتر وبالبوصة والسنتمتر؛ لكننا حين يحلّ المساء، نقيس الليل بالليل، ببعض أغنية، وبما تيسر من هدهدة الشعر والصبوات، وبشيء من سهاد الحبيبة؛ وخصلاتها التي بالكاد جفّ عطرها، وآهة عاشق ضاعت في الصدى، وفي زحمة الرغبات وحمى العناق. •حين نكفُّ عن تحمل أنفسنا، لا يبقى لنا غيرنا، مواساة صديق يخشى علينا أن نكتئب أو ننتحر، موال لأغنية قديمة يؤجل خوفنا والضجر، خجلنا من عامل النظافة، وهو يبتسم، ولادة برعم لشجيرة الورد، مشهد تلفزيوني يمسك بخناقنا فجأة، ثم يذرونا بين نتفٍ صغيرة من الذكريات؛ مقاه وحانات بعيدة، وجوه مضت، تمرُّ أمامك مسرعةً تطل عليك من قطار العمر، تتأمل البهي منها، وتطلق آهة مكلومة على من غادروا باكرين، وتركوا مقاعدهم للحنين والأسى؛ ليحرسا غيابهم الأبدي الطويل. •حين نكفُّ عن تحمل أنفسنا، تتضاءل الخيارات، تنكمش على نفسها؛ تصير أكثر تركيزاً وعمقاً، لا مجال للزوائد والحشو فيها. تكون أقل التواءً وأقصر. نطلُّ منها على زاوية الرؤيا المسننة والحادة كالنصل، لا وسيط بيننا وبينها، وهي تسحبنا نحوها كثقب أسود غامض، نتلاشى داخلها مخنوقين بتلك الدوائر اللا متناهية، وهي تعصر قلبنا وروحنا في طريق واحد لا عودة منه. •حين نكفُّ عن تحمل أنفسنا نفقد الرغبة بالمراوغة وفذلكات المناورة. تتساقط أحجار كثيرة من جدار المجاملات الذي بنيناه في عقود. سدّنا الوهمي الذي يقينا طوفان المواجهات وحراب الآخرين ونظراتهم المدببة المتلصصة. جلدنا الحربائي المنمق الذي يمكننا من عبور الممرات والمضائق ونقاط التفتيش من دون أن نكون مرئيين، وفي أفضل الأحوال كائنات لطيفة بريئة وثمينة كعملة قابلة للتداول من دون أن تثير الشبهة والانتباه. •حين نكفُّ عن تحمل أنفسنا، نعيد تشكيل حيزنا. نبعد عنه الأغطية الثقيلة الجامدة، قماشته المزركشة بكريستالاتها البراقة. نرتب قامته، ننتشله من وحل الاعتياد، ونغسله من الطين وأعواد الزمن التي تيبّست على حوافه. نعيد شكله الحقيقي العاري، وننزع عنه أشواك تلك الأبهة المزيفة التي أنهكته سنيناً، وجعلته معاقاً مزدحماً بصفوف من اللاجدوى. حين يصير نظيفاً، نجلس على كرسينا الأثير أمام فضاءات من المرايا، نتأمل شكلنا من جديد، نستعيد بهاءنا المخنوق، طفولتنا المنسية، شقشقة العصافير، ابتسامات قوس قزح الهلالية، ثم نصرخ بأقصى ما فينا (بما يشبه العواء الذي فرَّ فجأة من سجنه الأبدي، ونحن نقفز على بساط الفكرة) ماضين من دون عودة إلى حلمنا القادم، إلى أمل قديم له طعم الغصة وقبلة المستحيل .
مشاركة :