ظل المكان بعدا غائبا في أشعار العرب فالزمان هو المقدم عندهم والمسؤول عن افتراق الأحبة وتحول الأوضاع أما المكان فما هو إلا تابع هامشي يغيره الزمان يمحو رسومه ويبعثر أهله ويحوله إلى مشروع وقوف طللي. ولعل أجدادنا الأقربين كانوا أكثر إنصافا فيما يخص قدرة المكان على تشكيل المشاعر بصورة أخرى حين قالوا : ( البعد جفا). يقوم الزمن بعمليات فيزيائية يتغير معها الكثير تنتهي بها حياة أناس وتبدأ بالنسبة لآخرين, لا أحد يستطيع أن يغير هذه الحقيقة ولا أن يوقفها لكن بقاء الناس في مكان واحد يجعلهم يسلمون بهذا الأمر ويتعايشون مع آثاره , تحدث المأساة مع غياب الشاعر عن الحيز المكاني ثم عودته ليتفاجأ بآثار الزمان القاسية على جدرانهم وحضورهم ونارهم .. وهنا يصب الحزن مواويله في حنجرة القصيد عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غورها فرجامها وليس الغريب تجاهل العرب لدور المكان في تشكيل وضع عاطفي جديد فحسب بل الأغرب أنهم حصروا سلطا نه في بهجة اللقاء ومتعة الوصال ! ياساري البرق غادِ القصرَ واسقِ به ... من كان صَرْف الهوى والودّ يسقينا وشواهد أخرى كثيرة.. مثل هذه الظاهرة لم تكن تواطؤا ولا عن سابق اتفاق .. بل كانت كاليقين الذي تناقلوه أجيالا مما يقود إلى تساؤل حول النسق الذي تتكون من خلاله هذه الغمامات الفكرية في وعي الجماعات الإنسانية وتخلق ما يشبه البداهات في قناعاتهم . وحين نعود إلى موقعنا فالثابت أن الزمان لايزال يمتلك أدواته الفيزيائية نفسها فيما تلاشى البعد المكاني ليصبح العالم في حقائبنا وجيوبنا كبيت صغير يتعارك الأطفال في غرفة الجلوس ليرى المسترخي في غرفة النوم تفاصيل العراك..
مشاركة :