يأتي رمضان من جديد هذا العام، في أجواء مختلفة، بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد في عموم أنحاء العالم، مانعاً الناس من التجول والخروج، ومغلقاً المساجد والأماكن العامة التي كانت تعج بالمسلمين الذين ينتظرون الشهر الكريم. في حين يبقى لبعض أشكال الطقوس التقليدية المرتبطة بالتاريخ في منطقة الخليج العربي حضورها، حاملة معها ذكريات سنوية لا تُنسى عن رمضان ولياليه وإن كانت تُرى عن بُعد أو شرفات المنازل. مدفع رمضان هناك العديد من التسميات والصور المختلفة تشع ببهاء الماضي وألقه، وعبق القِدم الذي يحكي للأجيال تاريخاً طويلاً ما غادر ذاكرة سكان الخليج العربي، وبإصرار يحاولون الحفاظ عليه تعظيماً لتاريخ مشرف، كان أساساً لبزوغ فجر جديد، عَبّدَ الطريق وصولاً إلى حاضر مزدهر. ومن بين تلك الصور العالقة في قلوب شعوب بلدان الخليج قبل عقولهم، مدفع رمضان، هذه الآلة المدمرة الفتاكة القاتلة، التي صارت فيما بعد حبيبة قريبة مقربة؛ حين ارتبطت بأحب المناسبات إلى قلوب المسلمين، شهر رمضان، الذي يعلن المدفع فيه نهاية وقت الصيام، في زمن لم تكن تعرف أجياله بعدُ مكبرات الصوت التي توصّل صوت المؤذن المُعلِن لوقت حلول الإفطار إلى أبعد مدى. رمضان وتدريجياً، وصل العرف باعتماد المدفع معلِناً وقت الإفطار إلى دول الخليج، بعد اعتماده لأول مرة في القاهرة، وكان مجموعة من الجند وبأمر من السلطان المملوكي خشقدم، جربوا مدفعاً على سبيل اختباره لكونه مدفعاً جديداً، وصادف ذلك غروب أول يوم من رمضان عام 865هــ، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك. وبدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولاً بعد مصر، ثم إلى بغداد أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها انتقلت إلى مدينة الكويت، ثم انتقلت إلى أقطار الخليج كافة، فاليمن والسودان ودول غربي أفريقيا ودول شرقي آسيا. اليوم، وبفعل التطور الهائل في الصناعات والتقنية، ما عاد مدفع الإفطار يعتمد مؤقتاً ومنبهاً للصائمين، وبدأ التخلي عنه منذ بداية القرن الماضي، مع انتشار المساجد التي تطلق أذانها من خلال مكبرات الصوت، وباعتماد الساعات المنبهة، ومنبهات الهواتف الجوالة، بالإضافة إلى المحطات التلفزيونية التي تبث الأذان بجميع أوقاته. كورونا.. يمنع التجمهر وقبل كورونا كان سكان الخليج يهتمون بشكل كبير بمدفع الإفطار، والذي يمثل عندهم قيمة وذكريات كثيرة، فكانوا يصرون على إبراز حبهم واعتزازهم به، حيث وُضع في الساحات العامة، وفي المتاحف، كما صُنعت مجسمات وُضعت بأماكن عامة في جميع الدول الخليجية، باعتباره رمزاً من رموز الشهر الفضيل. لكن مع حلول كورونا، لم يبقَ لذلك التراث المهم حضور تفاعلي، إذ حرمت التدابير الاحترازية لمواجهة تفشي فيروس كورونا السكان من التجمهر حول المدافع كما كان ذلك رمضان السابق وما قبلها. أهل المدينة المنورة بالسعودية أصروا عام 2014 على إعادة مدفع الإفطار؛ لحبهم لتلك الصورة الرمضانية، وعاود المدفع لعمله فعلاً بعد توقف دام 20 عاماً، واتُخذ من منطقة “سلع” مقراً دائماً له القريبة من منطقة الحرم النبوي، وسينطلق رغم وباء كورونا هذا العام، لكن دون أي مشاهدين يرونه بشكل شخصي. وقال الباحث التاريخي فؤاد المغامسي في حديث مع صحيفة “الوطن” السعودية” إن “مدفع رمضان ورغم ما عرفته المدينة من تغييرات وتطورات على مختلف المستويات إلا أنه من أجمل المظاهر المنتظرة في رمضان، والتي تناقلتها الأجیال. المدينة ما في قطر، لن يتمكن الناس والسياح من التجمع حول مدفع الإفطار لمشاهدته مدوياً بصوته، إيذاناً بالعودة إلى الزمن الماضي، وذلك مع دخول وقت المغرب طيلة أيام رمضان كما كان سابقاً، وذلك بسبب وباء كورونا المستجد والإجراءات الاحترازية المتبعة. في حين حرصت بلدية دبي رغم تفشي فيروس كورونا، على إبقاء صورة المدفع الرمضاني لكن دون جمهور هذا العام، حيث سيوجد في أربعة مواقع من الإمارة. وقال آمر وقائد فريق إطلاق المدفع في الإدارة العامة لأمن الهيئات والمنشآت والطوارئ، الرائد عبد الله طارش العميمي، إنه “تم تشكيل طاقم عمل في كل موقع من المواقع التي تم اختيارها لتوزيع مدافع الإفطار، وهي: الخوانيج وأتلانتس النخلة وبرج خليفة ومصلى العيد في منطقة المنخول”. وسيتمكن السكان من مشاهدة مدافع رمضان من منازلهم بسبب المناطق التي تم اختيارها في دبي، وفق صحيفة “الإمارات اليوم”. كما سيكون من الصعب حدوث تجمعات في الكويت عند مدفع الإفطار الذي يقع قرب سوق المباركية التراثي في قلب العاصمة. أما في البحرين، وعلى ساحل البحر بالعاصمة المنامة، فكان من عادة الناس أن يتجمعوا مع أولادهم الصغار من أجل مشاهدة إطلاق المدفع يومياً، وقت حلول موعد المغرب، إلا أن وباء كورونا سيحول دون ذلك هذا العام. وفي سلطنة عُمان، وعلى الرغم من اندثار عادة إطلاق مدفع رمضان، تبقى آثاره ومجسماته وأعداد منه تُشاهد في المتاحف والمناطق السياحية والعامة.
مشاركة :