حين تستفحل الأزمات العالمية، كتلك التي نشهدها اليوم بفضل جائحة فيروس كورونا المستجد، ترتفع الأصوات المشيرة بأصابع الاتهام نحو أسباب فشل النظام العالمي القائم في التصدي لها، ووضع حد لتداعياتها. وغالبًا ما تنذر مثل تلك الأزمات بتهاوي النظام القائم، وبزوغ نظام دولي آخر مكانه. وإن كان تشخيص الأزمة لا يتطلب زمنًا طويلاً، فإن الانتقال من نظام قائم إلى آخر محله، يتطلب مرور فترات زمنية طويلة، قبل أن يتهاوى نظام كي يحل مكانه آخر بديلاً له. وفي هذه التحولات تختفي دول، لم تعد قادرة على الاحتفاظ بمواقعها المؤثرة في صنع القرار الكوني، كي تأخذ مكانها دول أخرى لم تكن في الصدارة، وفي مركز صنع القرار. ولعل أقرب مثال حي، من الناحية التاريخية، لمثل هذه التحولات الجيوسياسية التي نشير إليها، هو ذلك الذي عرفه النظام الدولي في أعقاب الحرب الكونية الثانية، عندما تراجعت القوى العظمى المتحكمة في مفاصل آليات تسيير النظام الدولي قبل اندلاع تلك الحرب، من أمثل ألمانيا، وفرنسا وبريطانيا، بل وحتى إيطاليا، كي تحل مكانها دول أخرى تتصدرها روسيا كقائدة للمعسكر الذي عرف حينها بالسوفيتي، وتتزعمها الولايات المتحدة التي كانت تقود المعسكر الرأسمالي، الذي يحلو للبعض تكنيته بالمعسكر الليبرالي. محصلة التحول كان انقسام العالم إلى معسكرين يتقاسمان صناعة القرار في العالم، ويتحكمان في مصائر دوله، واندلاع ما عرف بالحرب الباردة بين قياداته. في خضم ذلك، وفي صلب ذلك الانقسام، وفي ذروة التنافس الاستعماري بين واشنطن وموسكو، شهد العالم بروز الأزمات التي ولدتها قوانين الحرب الباردة. وبدأت دول العالم الصغيرة، أو الفقيرة، تبحث عن بديل لقوانين ذلك التقسيم «الاحتكاري» بين ما عرف حينها بالدولتين الأعظم: روسيا والولايات المتحدة. وكان للعرب لمسات واضحة في الأخذ بيد العالم نحو طريق ذلك يحدث الاختلال المطلوب الذي يقوض أركان ذلك النظام الدولي الذي نتحدث عنه، والذي تشكل في أعقاب الحرب الكونية الثانية. بل والذي يعتبره البعض كإحدى النتائج الثانوية لتلك الحرب الممتدة بين 1937 – 1945. كرست تلك اللمسات ما أطلق عليه حركة عدم الانحياز، التي يرى فيها الكثير من المصادر أنها كانت نتيجة مباشرة «للحرب الباردة التي تصاعدت بين المعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو) وبين المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو) حال نهاية الحرب العالمية الثانية وتدمير دول المحور، وكان هدف الحركة هو الابتعاد عن سياسات الحرب الباردة». المهم بالنسبة لنا نحن العرب، إننا كنا في صلب تلك الحركة، وأحد رموز قيادتها ممثلين في شخصية الرئيس جمال عبدالناصر، الذي شكل مع رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو والرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو، قيادة محور حركة دول عدم الانحياز، التي كانت نواتها 29 دولة حضرت مؤتمر باندونغ في العام 1955. لسنا هنا بصدد تقويم جمال عبد الناصر، والنظام المصري خلال فترة حكمه، بقدر ما أردنا الإشارة إلى أن للعرب محاولات جادة في التاريخ المعاصر، من أجل أن تكون لهم كلمتهم في صنع القرارات الدولية المصيرية، وهو الأمر الذي افتقدوه، كي لا نقول تخلّوا عنه، خلال النصف القرن الأخير، رغم الفرص المتاحة أمامهم، إثر المكانة التي تبوأوها في أعقاب الارتفاع المفاجئ الذي عرفته أسعار النفط في مطلع السبعينات من القرن العشرين، وكميات النفط الضخمة التي كانت بحوزتهم. من المتعارف عليه في علوم الجغرافيا السياسية، أن العناصر الرئيسة التي تحتاجها دولة ما، أو كتلة سياسية معينة تريد أن تكون جزءًا مهمًا من مكونات منظومة صنع القرار في العالم، هي القوة العسكرية، والإمكانات الاقتصادية، والعقيدة الفكرية التي تنظم مرافق المجتمع الذي تنتمي له تلك الدولة أو الكيان السياسي، ففي وسعنا القول إن العرب بحوزتهم مثل تلك العناصر، وربما يمكنهم إضافة أخرى غيرها تحت تصرفهم. فعلى المستوى الإيدلوجي، أو العقيدي، يتصدر العرب الدول الإسلامية، ويعترف لهم الكثير من الدول الإسلامية بالقيادة على هذا الصعيد، بمن فيهم دول لها مكانتها الدولية مثل تركيا، حتى عندما تحاول التمرد على ذلك. مصدر ذلك كون مكة المكرمة، والكعبة الشريفة، تقعان في واحدة من الدول العربية الكبرى، هي السعودية التي لها مكانتها أيضًا في دوائر صنع القرار العربي. أما على المستوى الاقتصادي، فيمكن القول، أنه بفضل المكانة الاستراتيجية التي يتمتع بها النفط والغاز الطبيعي، والكميات الضخمة على مستوى الاحتياطي المخزون في الأرض، والكميات المصدرة اللتين بحوزة البلدان العربية، وليست الخليجية فحسب، يمد كل ذلك الدول العربية بمكانة متميزة تبيح لها أن تكون جزءًا مهمًا من مكونات صنع القرار ليس في الكتلة العربية، وهي لها مكانتها التي من الخطأ الاستهانة بها فحسب، وإنما على مستوى دول العالم الثالث وبعش الدول الأوروبية على حد سواء أيضًا. يضاف إلى ذلك الموقع الاستراتيجي العربي. فمن المسلمات غير القابلة للنقاش تلك الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها العالم العربي بفضل موقعه المتوسط بين القارات الثلاث التي تشكل العالم القديم، وتحكمه في أهم ثلاث مضائق بحرية: جبل طارق وباب المندب وهرمز، التي تضع بين يدي صناع القرار العربي قدرات جيو-سياسية ضخمة ومتكاملة، متى ما أحسن تقدير قوتها، ولم يفرط في قنوات استخدامها والاستفادة منها. لم ينقص من هذه الأهمية تلك التطورات التي عرفتها حركة الطيران، وصناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بل ربما عززت من هذه الأهمية. يضاف إلى كل ذلك الخلفية الحضارية المترامية الأطراف التي تستمد قوتها من التعدد العرقي، والتنوع الديني، بل وحتى المذهبي، والتماهي اللغوي. كل ذلك يشكل باقة من التمايز المتكامل المصهور في رقعة جغرافية واحدة متصلة تجمعها، إلى حد بعيد، جذور لغة عربية واحدة.
مشاركة :