بات يمكننا تكوين رأي حول الأعمال الدرامية هذا العام، فالمسلسلات مثل الروايات وكل الأعمال الإبداعية الأخرى إن لم تشدّك إليها منذ البداية فلا داعي لها. والكثير من الناس على مواقع التّواصل الاجتماعي وصل بهم النقد حدّ التجنّي والهدم، وآخرون يدافعون بشراسة عمياء، لكن وحدها حركيّة النقد بإمكانها خلق مشهد درامي أفضل، فقد انتهى زمن الجمهور المجبر على الاستهلاك والصمت. على عكس السينما والمسرح والأمسيات الشعرية والمعارض وغيرها من الأنشطة الثقافية، التي يتنقل إلى فضاءاتها المتلقي، أو يختار متابعتها على شبكة الإنترنت، فإن الدراما تبدأ من شاشات التلفزيون والقنوات العربية، وقد تعاد لاحقا على شبكة الإنترنت في مواقع مثل يوتوب. خصوصية فضاء عرض الدراما في قنوات تلفزية تشتري الأعمال الدرامية بأموال طائلة أو تنتجها وتغدق على نجومها، جعل رهانها الثقافي والفني أقل درجة من رهانها الأول، وهو شد الجمهور وتحقيق متابعة كبيرة لجلب المستشهرين للقنوات، وبالتالي تحقيق لعبة الربح. يرفض الكثير من المثقفين مسألة الربحيّة، منتقدين بقسوة مفرطة أحيانا الممثلين والمخرجين والمنتجين والقنوات التلفزية والأعمال الدرامية، متتبعين كل عثراتها بالمنظار وأحيانا يسقطون في محاكمات أخلاقية سطحية. في المقابل تغرق الكثير من الأعمال الدرامية في كليشيهات وترويج للأكاذيب التاريخية ولصور العنف والقتل والاغتصاب والذكورية والإجرام وغيرها من مكونات الأكشن المبتذل، تحت شعار الجمهور يريد هكذا. وفي محاولة لخلق التشويق والإثارة من خلال البهرج، ونحت شخصية البطل الذي يريده الشباب خارجا عن القانون وفي نفس الوقت ذكوريا ومهيبا ولا يمكن قهره، وقس على ذلك من صفات الأبطال المشوهين الذين لم تعد لهم قضايا يدافعون عنها. كليشيهات وحشو في حال الدراما التونسية والتي لا تختلف تقريبا عن حال الدراما العربية وتناولاتها، فتزامنا مع كل رمضان، باتت تنطلق العشرات من الأعمال هنا وهناك بين الكوميدي والسيتكوم والمسلسلات، وكالعادة يسيل الحبر على أشهرها ويغفل أقلها حظا أو موهبة أو إثارة. لنتفق بداية على أن الدراما ليست وظيفتها الأولى الوعظ ولا الإرشاد ولا التعليم، وليس رهانها الأول الفن والثقافة، بل هي بين هذا وذاك، مزيج من الكل يحاول تلبية حاجيات المتفرج واستقطابه. مسألة الاستقطاب لا يدخل فيها الموضوع المطروح فحسب، بل والصورة والأداء والفكرة والطرافة والموسيقى وصولا إلى الحبكة واللغة والترابط والتفرعات. إنه عمل فريق كامل بداية من السيناريست وكاتب الحوار إلى الموسيقيين والتقنيين والمصورين والممثلين وصولا إلى المخرج، ثم المنتجين وطرق تسويقهم للعمل. الخضوع لاشتراطات السوق قد يتعارض مع جوهر الثقافي والفني والفكري الذي هو جزء من العمل الدرامي، لكن هي لعبة الدراما وهناك من أتقنها، ونجح في أن يجمع بين المستوى الفني الراقي والقدرة على استقطاب جماهير واسعة دون السقوط في تجارية فجّة. الكثير من الأعمال في الدراما التونسية هي مجرد تجارة خالية من المحتوى، تطورت الصور بشكل كبير بحكم تطور الآلات، لكن المخيلات لم تتطور أبدا. في الحلقات الأولى من مسلسل “النوبة 2”، المسلسل الذي بدأ طريفا نسبيا في جزئه الأول، قدم مشهدا حيث ترك الضابط ابنته وزوجته وأمه في السيارة، ثم فجأة التفت وتباطأت الصورة في ما يشبه الوقت الميت، نفس الصورة حين تتفجر عادة سيارة البطل وبداخلها زوجته في أفلام الأكشن لينهار البطل ثم يعود لينتقم، تكهنت بانفجار السيارة وفعلا انفجرت، وانهار الرجل وفي انتظار أن يبدأ مسيرة انتقامه أو ينتحر وتنتهي الشخصية ومن معها بلا أثر ولا وظيفة. هذا تكرار عجيب لمشهد أعيد تصويره بنفس الطريقة المئات من المرات في السينما التجارية الهوليوودية حتى أن المشاهد ملّه تماما. نجد كذلك هذا العام مشاركة بعض الممثلين في أكثر من مسلسل فمثلا نجد الممثل فتحي الهداوي مشاركا في مسلسل “النوبة 2” بشخصية مركبة وفي مسلسل “قلب الذيب” بشخصية مناضل وطني وفي مسلسل “أولاد مفيدة” بشخصية الحاج تاجر المخدرات. يمكن له ذلك، ولو أن القائمين على هذه الأعمال اختاروه لاسمه لاستقطاب جمهور من محبي الممثل لا لمناسبته للدور. وهذا ما يبدو جليا إذا لاحظنا أن الهداوي يؤدي الأدوار الثلاثة بنفس الروح ونفس الشخصية تقريبا مع اختلافات بسيطة. فمثلا مناضل من الحزب الدستوري والحركة الوطنية يتكلم بلغة تاجر مخدرات وفتوّة، هذا في الحقيقة صعب. نجد مسلسلات أخرى تروّج للعنف والإجرام وأولها “أولاد مفيدة”. لا مشكل أن تعكس الأعمال الدرامية الإجرام والبؤس الموجودين في المجتمع وخاصة في قاعه، تونسيون كثيرون بالآلاف يعيشون في عوالم مليئة بالجريمة المتفاقمة، ومن حق الدراما الدخول إليها وتعريتها، لكن أن تصنع مثالا إجراميا وتشجع على الإفلات من العقاب فهذا ترويج غير واع للجريمة. من ناحية أخرى من حق الأعمال أن تعكس الواقع، واقعنا كواقع أغلب الشعوب في العالم ليس كله مزهرا، هناك الكثير من الخفايا في الواقع اليوم أو في التاريخ تستحق الكشف، لكن بوعي لا فقط للإثارة. الدراما التونسية تطورت كثيرا من ناحية الجرأة والحرية والتناول المجدد والصورة، لكنها ما زالت تعاني من نقائص كثيرة الدراما التونسية تطورت كثيرا من ناحية الجرأة والحرية والتناول المجدد والصورة، لكنها ما زالت تعاني من نقائص كثيرة هنا نستحضر مثلا مسلسل “قلب الذيب” الذي يدعي عودته إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، ومن مآزقه أنه روج لنفسه كعمل تاريخي، ربما الأعمال التاريخية ليس عليها الالتزام بالتاريخ بقدر ما عليها كشف خفاياه وإحياء أرواحه بخلط ما هو خيالي بالأحداث الواقعية، فتناول الفنان للتاريخ ليس نفس تناول المؤرخ. حدد المسلسل له سنة 1948 زمنا لانطلاق أحداثه، ومعها مشهد لجنود يفتكون الأراضي من تونسيين، وهذا مغلوط تاريخيا حيث كانت تلك الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فترة انتشار النقابات العمالية وبدء التحرك السياسي لتحقيق الاستقلال، فبين 1948 و1952 كانت هناك مفاوضات سياسية ونقابية مع المستعمر الفرنسي، وأما عن الكفاح المسلح فقد بدأ إثر تعطل هذه المفاوضات سنة 1952. ولم يخلُ هذا المسلسل من بعض الأخطاء والكليشيهات خاصة مسألة المخبرين ونشاط الحزب التونسي. أضف إلى ذلك الحشو في أكثر من لقطة وتوجه في دقيقة، عادي أن يبدأ بك من الكاباريه إلى مجلس عزاء إلى جبل حيث يوجد المقاومون. ولا رابط بين مشهد وما يليه وهذه ربما أخطاء بدائية لمخرج العمل بسام الحمراوي الذي قد نلمس أعذارا له بما أنه عمله الأول في الإخراج التلفزي. نجد أيضا سلسلة الفرقة 27 وهذا عمل حقيقة غريب بكل المقاييس، يقترح نفسه مزيجا بين الكوميديا والنقد اللاذع للواقع التونسي وكشفا لبطولات الجيش التونسي في حربه ضد الإرهاب، وفي الحقيقة لا شيء من هذا ولا وجود لأداء تمثيلي والأخطاء بالجملة والسيناريو هزيل جدا، لا أحداث مقنعة، وحتى محاولة الاستنجاد بمشهد “البلاتو” التلفزي كانت ركيكة. الحشو هو ميزة أغلب المسلسلات التونسية، حشو كما اتفق بمشاهد ممططة وحوارات فارغة ومشاهد ميتة، حشو لحلقات كي تصل إلى مدى الـ18 دقيقة وأحيانا إلى 24 دقيقة، وتنتهي بمفاجأة وترسيخ للتجارية الفجّة، فالعثرات التي لم يخلُ منها ولا عمل تقريبا، وربما يكون الظرف الخاص بانتشار فايروس كورونا المستجد والخوف من عدم استكمال التصوير والتسرع من بين الأسباب في أن تكون دراما هذا العام بهذا السوء. التطور ممكن الأعمال الكوميدية لم تنجُ هي الأخرى من الرثاثة بل زادت مغالاة فيها، هل يعقل أنه في العام 2020 ما زال الممثلون التونسيون ومنتجو الأعمال الكوميدية، يحاولون إضحاك الناس باللهجة الريفية وتصوير الشخص القادم من الريف جاهلا أحمق لا يفقه أبسط بديهيات الحياة. يضحكون الناس بحركات تقلد ذوي الحاجيات الخصوصية وأصحاب الهمم. شارلي شابلن ومستر بين مثلا أضحكا الملايين من الأشخاص في العالم دون أن يقولا كلمة ولا أن يسخرا بفجاجة من أي أحد كان، لكن الأعمال الكوميدية التونسية ما زالت في عثراتها القديمة، شخصية الريفي الأحمق التي تعبر عن نمطية سيئة، رغم أن هناك أعمالا حققت بعض النجاحات سابقا، فقد بان بالكاشف أن المواقف هي ما يصنع الضحك والمتعة وأن السخرية فن قبل أن تكون وسيلة للنيل من إنسان بهدف جعله “مَضحكة”. ولعل السيتكوم القديم “شوفلي حل” الذي ما زال صالحا للعرض مرارا ومضحكا رغم قدمه، أبرز مثال على ذلك. لا ننكر أن الدراما التونسية تطورت كثيرا من ناحية الجرأة والحرية والتناول المجدد وجمال الصورة، لكنها ما زالت تعاني من بعض النقص، أبرزه على مستوى كتابة السيناريو والحوارات، والتخلص من الكتابة الارتجالية الحينية طمعا في ربح أكبر، كما لا بد للدراما أن تعطي فرصة للكثير من المواهب من خلال فتح “كاستينغ” لأعمالها، وعدم الاكتفاء بالوجوه نفسها في أكثر من عمل، وإعطاء الممثلين والتقنيين حقوقهم لتشجيعهم على الإبداع لا الاستثراء على حسابهم من قبل منتجين أغلبهم لا علاقة لهم بالفن ولا بالإبداع ولا بالسينما أو غيره فقط هو تاجر. تحقيق المعادلة يحتاج تكاتفا من الجميع حيث تزخر تونس بطاقات كبيرة في الكتابة والتمثيل والإخراج والإنتاج والتسويق، كما لتونس تنوع جغرافي كبير ما يجعلها قبلة هامة للتصوير، فلا ننسى مثلا الجنوب التونسي الذي استقطب أهم مخرجي العالم قبل أن ينحدر دوره في ظل غياب الاهتمام الكافي والتطوير. هناك من نقد التوجه إلى الشباب في صناعة الدراما، وهذه مغالطة، حيث قدم المخرجون الشباب الكثير من الروح الجديدة للدراما التونسية، لكن المنقوص هو التكاتف والابتعاد عن الجشع من قبل القنوات الخاصة، من الإيجابي أن ترى محاولات لخلق وجه للدراما التونسية، وهو ما سيظهر في الأعمال القادمة، فبالنقد الواعي والحرّ تتطور الأعمال لا بتصفية الحسابات التي انتهجها البعض، وبالوعي أن الجمهور تطور ومن حقه أن يقول رأيه، فقد انتهى زمن الجمهور الصامت.
مشاركة :