تحديات صعبة ما بعد أزمة جائحة كورونا

  • 4/28/2020
  • 01:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

 تحدثت في عمود الأسبوع الماضي عن حالة التفكك الاقتصادي الحادة، التي تعيشها الكثير من العائلات في مختلف أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية، كما توقعت أن تفرز هذه الأوضاع الكثير من التيارات والحركات السياسية، ذلك أن الصدمات التي يتعرض لها النظام تولّد ردود الأفعال المماثلة، وهي تكون أحيانا تلقائية وأحيانا أخرى مدبرة. في بعض الأحيان تكون ردود الأفعال نتاج ما كان الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن يسميه «أفضل ملائكتنا». أما بقية ردود الأفعال فهي تكون ناتجة عما يفعله أولئك الذي يعزفون على وتر المخاوف والهواجس الناجمة عن حالة التفكك التي تحدثت عنها.لعلنا بدأنا نشهد بعض الإرهاصات عن ردود الأفعال خلال الأسبوع الماضي، ذلك أن الشخصيات الإعلامية والمنظمات اليمينية دعت إلى الخروج في مظاهرات كبيرة في عواصم الولايات للمطالبة بإنهاء الإجراءات الاحترازية وحالة الإغلاق التي فرضت من قبل للحيلولة دون تفشي جائحة فيروس كورونا.كان المتظاهرون يحملون رايات تندد باستمرار حالة الإغلاق وتستغل بعض المضامين مثل الحرية ومبادئ الإنسان، من قبيل: «لا يمكن فرض الحجر الصحي على الدستور»؛ «حقوقي لا تنتهي عندما تبدأ مخاوفك»؛ «حقوقي تدوس على مخاوفك»، وهي شعارات مؤيدة للرئيس دونالد وترامب وشعاره «لنجعل أمريكا عظيمة من جديد»، وقد كانت تلك الشعارات هي التي تطغى على تلك المظاهرات.أما الرئيس دونالد ترامب فقد عمل من جهته على تشجيع تلك المظاهرات، وذلك من خلال إطلاق سلسلة من التغريدات السريعة التي جاء فيها «حرروا مينيسوتا»؛ «حرروا ميتشجان»، قبل أن يكتب «حرروا فرجينيا وأنقذوا المادة الثانية من الدستور الأمريكي. إنها تحت الحصار».. لقد كان بذلك يستهدف الولايات التي يحكمها ديمقراطيون.هذه هي الأساليب الكلاسيكية التي عرف بها الرئيس دونالد ترامب والجمهوريون معه، وذلك من أجل تحويل المسؤولية عن «النظام المؤسسي»، والتباكي على ضياع الحريات على أيدي الذين يعملون في الحكومة. إن مثل هذا النهج والمقاربة يثيران السخرية لأن الرئيس ترامب يرأس الآن الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية كما أنه هو الذي أصدر أمره بفرض الحجر الصحي العام.لقد عمد الرئيس ترامب إلى استخدام نفس الأساليب وراح يعزف على مخاوف أنصاره ويؤجج فيهم ما بداخلهم من كراهية. ففي خلال الأسبوع الماضي، راح يشن حملة للتحريض ضد الصين وتحميلها مسؤولية تفشي جائحة كورونا وحدها، كما مارس التحريض ضد المسلمين واعتبر أنهم يحظون بمكانة لم يتمتع بها المسيحيون أو اليهود، كما استهدف بتحريضه المهاجرين واتهمهم بالاستيلاء على مواطن الشغل وافتكاكها من الأمريكيين، من دون أن يفوت الفرصة مرة أخرى ويتهم الديمقراطيين بتهديد الحريات الأمريكية.في خضم كل هذا يبدو أن الرئيس ترامب وحزبه الجمهوري يريدان أن يعيدا نفس الأساليب التكتيكية التي كانوا قد استخدموها وحققوا من خلالها بعض النجاح عقب الأزمة المالية التي حدثت بين سنتي 2008 و2009. ففي تلك الفترة لم يتوان الجمهوريون أيضا عن شن حملة شعواء للتحريض ضد الأجانب من خلال اتهام المهاجرين بالوقوف وراء الجرائم التي تحدث في الولايات المتحدة الأمريكية وسرقة مواطن الشغل من المواطنين الأمريكيين، كما اتهموا العرب والمسلمين بتهديد القيم والأمن الأمريكي واتهموا السود واللاتينيين بالحصول على امتيازات لا يستحقونها، من دون أن ينسوا أن يستهدفوا الجهود التي كان يبذلها الديمقراطيون في تلك الحقبة من توسيع مظلة الرعاية الصحية واعتبروا أن ذلك من شأنه أن يضع الرعاية الصحية بين أيد البيروقراطيين في الإدارة الأمريكية.لقد حققت تلك الأساليب التكتيكية أهدافها وأسهمت في خلق حركة جماهيرية واسعة أفرزت في نهاية المطاف «السياسة الترامبية». نجح الجمهوريون بذلك في تحويل الكثير من الناخبين البيض من الطبقة الوسطى، الذين كانوا يشعرون بالتهميش والخوف على مستقبلهم، إلى قاعدة عريضة مؤيدة لسياساتهم الاقتصادية من دون أن يدركوا أنها تتناقض مع مصالحهم الخاصة.خلال العقد الماضي من الزمن، ظل الجمهوريون يعملون على بث الانقسامات في وقت فشل فيه الديمقراطيون في الرد على ذلك الخطاب السياسي الجمهوري. صحيح أن الديمقراطيين قد رفعوا شعار «نحن أقوى معا»، غير أنهم وضعوا أهدافا سياسية معقدة مثل إصلاح سياسة الهجرة والتركيز على أولئك الذين لا يحملون أي وثائق قانونية إضافة إلى برنامج بقيمة تريليون دولار لتحديث البنى التحتية في مختلف أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية.عمل الديمقراطيون أيضا على تكثيف وتحديث أساليبهم في جمع التبرعات ورسم الاستراتيجيات ذات العلاقة بوسائل التواصل الاجتماعي ونجحوا في تحويل الأقليات والشباب والنساء المتعلمات إلى قاعدة قوية مؤيدة لهم غير أنهم فشلوا في تقويض القاعدة العريضة المؤيدة للرئيس ترامب, كما أنهم فشلوا في تقويض الدعائم التي تقوم عليها السياسة الترامبية. بل إن المقاربة التي اعتمدها الديمقراطيون في طرح مثل هذه المواضيع والقضايا هي التي أسهمت بدورها في تعميق الانقسامات في الولايات المتحدة الأمريكية.يجدر بنا في هذا الصدد أن نذكر بالأمثلة التالية:في خضم النقاشات المتعلقة بإصلاح سياسة الهجرة طالبت سلطات البيت الأبيض والديمقراطيون بضرورة توسيع العملية لتشمل المهاجرين القادمين من مختلف أنحاء العالم. على سبيل المثال، أظهرت الأرقام الرسمية أن هناك عشرات الآلاف من الإيرلنديين والبولنديين والجنسيات الأوروبية الأخرى لا يحملون وثائق قانونية. فقد سألتهم عن سبب استبعاد هذه الفئة من المهاجرين من النقاشات حول إصلاح سياسة الهجرة؟ فلم يجد كلامي ذلك آذانا صاغية وبدا وكأن المهاجرين اللاتينيين هم الوحيدون الذين سيخرجون مستفيدين من إصلاح سياسة الهجرة.في سنة 2014، عقب الخسائر الفادحة التي تكبدها الديمقراطيون في انتخابات التجديد النصفي قدم المسؤول عن إجراء استطلاعات الرأي في الحزب الديمقراطي عرضا أمام أنظار اللجنة التنفيذية واعتبر أنه رغم الخسائر الكبيرة التي لحقت بالحزب فإن هناك أخبارا سارة تتمثل في الحفاظ على القاعدة المؤيدة للحزب والمتكونة من الأقليات والشباب والناخبات المتعلمات رغم أننا لم نكسب من أصوات هذه الفئة بالذات العدد الكافي من الناخبين.لقد اقترح ذلك المسؤول تخصيص مزيد من الموارد من أجل تحسين النتائج ضمن هذه «الشرائح الانتخابية المهمة». عندما سألتهم عما يفعله الديمقراطيون من أجل الوصول إلى الناخبين البيض من أبناء الطبقة الوسطى في بعض الولايات مثل بنسلفانيا وأوهايو وميتشجان ووسكونسن -والذين خسرنا الكثير من تأييدهم- قيل لي: «لن نهدر الأموال في ملاحقة أولئك الناخبين الذين لن يصوتوا أبدا لنا». يومها قلت لهم ردا على هذا التفسير وحذرتهم من أن اعتماد مثل هذه المقاربة يعني أن الديمقراطيين لا يختلفون في شيء عن الجمهوريين الذين يعملون على بث الانقسامات والاستثمار فيها.في إطار نفس هذه العقلية، مازلنا نذكر كيف إن هيلاري كلينتون قد استهانت بمؤيدي الرئيس دونالد ترامب وقالت إنهم «سلة من الحثالة»، وقد أعطت تلك العبارة الجمهوريين السلاح الذي مكنهم من تقوية حملتهم، متهمين مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون بأنها نخبوية وبأنها تكنّ الكراهية لأبناء الطبقة الوسطى من البيض.يمكن أن نرى في المظاهرات المناهضة للحجر الصحي الشامل بسبب تفشي جائحة كورونا تجديدا لنفس تلك الاستراتيجية التي اتخذها الجمهوريون للعزف على مشاعر الخوف والهواجس والكراهية. أما أولئك الذين ينظمون هذه التجمعات والمظاهرات فهم يعرفون جيدا ماذا يفعلون، كما أن لهم أهدافا مرسومة. فالكثير من المتظاهرين من أشد دعاة الكراهية وقد راحوا يلوحون بأعلام الكونفدرالية، كما تم توزيع بعض العلامات الرمزية الدالة على المتظاهرين بما يؤكد غايتهم المبيتة. إنهم لا يكتفون فقط بالسير في الخطوط الأمامية، بل إنهم أيضا حملة ودعاة استراتيجية ترمي إلى الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأمريكيين الذين يشعرون أنهم باتوا مهددين بالدمار الاقتصادي والتهميش من النخبة، الأمر الذين يولد لديهم هواجس ومخاوف من المستقبل. يتعين العمل على وضع استراتيجية مضادة تخاطب «أفضل ما فينا من ملائكة» لكل الناخبين. يجب أن تقوم هذه الاستراتيجية المضادة على رسالة وخطاب يجمع ولا يفرق ويكرس الاحترام ويتحدث إلى كل شرائح المجتمع وفئاته. هذه هي الاستراتيجية التي يمكن أن تحقق أهدافها. يجب أن تعكس مثل هذه الاستراتيجية المضادة فهما عميقا لمخاوف هذه الفئات وحتى غضب أبنائها الذين فقدوا وظائفهم وسخطهم على الحياة في ظل الحجر الصحي وهم معزولون عن عائلاتهم وأصدقائهم. يجب أن تؤسس هذه الاستراتيجية المضادة على القيم وتكون في مثل قوة سياسة فرانكلين روزفلت خلال الأزمة الاقتصادية الكبرى سنة 1929 والسياسة الجريئة التي اعتمدها ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية. يجب أن تقدم هذه الاستراتيجية الإجابة عن الأسئلة الحادة وتحمل رؤية وتفسر للناس أنه لا بد من مواصلة تطبيق الحجر الصحي مع طرح رؤية مستقبلية إيجابية تنتظرنا إذا ما التزمنا مثل هذه الإجراءات الاحترازية.يجب أن يكون رد الفعل شخصيا وشاملا، يخاطب الضحايا والأبطال ويحول قصصهم إلى منبع لإشاعة الأمل وبث مشاعر التعاطف وتجديد الثقة في قدرة الحكومة. أنا على ثقة تامة بأن أولئك الذين يتحركون بدافع الغضب والمخاوف والكراهية سيتجاوبون مع الخطاب الذي يتحدث إليهم ويكترث لأوضاع عائلاتهم ويعبر عن التعاطف معهم ويهتم فوق ذلك كله بالمصلحة العامة. يجب أن يتولى أناس يحظون بالاحترام مخاطبة هذه الشرائح والفئات الاجتماعية حتى نكسب دعمهم وتأييدهم.لا شك أن المهمة لن تكون سهلة، غير أن الأزمة التي نتخبط فيها اليوم وردود الأفعال الرجعية التي تتنامى أمام أعيننا تتطلب منا استراتيجية تقطع مع المقاربات الماضية التي لم تؤت أكلها. صحيح أنه لا يمكن اليوم وضع جدول زمني للتوصل إلى لقاح أو اكتشاف دواء غير أن ما يبذله علماء الطب يجعلنا نشعر أن ذلك سيتحقق بلا شك. في المقابل لسنا متأكدين بالمرة من طبيعة المجتمع أو الحكومة التي ستدير البلاد عندما تنتهي هذه الأزمة. هذا هو التحدي الذي نواجهه. ‭{‬ رئيس المعهد العربي الأمريكي

مشاركة :