في رثاء الصديق.. جاسم خالد للمزيد

  • 4/29/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

توفي قبل أيام، المرحوم جاسم خالد الداوود المرزوق (وزيرالعدل وبعدها وزير التربية ثم وزير الصناعة والتجارة) بعد معاناة من المرض، اشتد عليه في آخر أسبوعين من حياته، فانقطع عنا نحن أصدقاءه المقربين الذين يستحسن التواجد معهم، والذين أبعده المرض عن مجالستهم، ورغم ذلك، كان يقاوم لكي يكون في صفوفهم مستمعاً أكثر الأوقات ومتحدثاً في بعضها، كانت هذه اللقاءات عاملاً في توفير الهمة وفي زيادة صلابته وفوق ذلك تمده بقوة التحدي. كان يستمتع بتلك الساعة مع من عرفهم وعاشرهم لعقود من الزمن.. وكنت أشجعه على البقاء أكثر فلا داعي للعودة السريعة إلى المنزل وحرمانه من الأجواء التي يسلك فيها وفق طبيعته، لكن المرافقين من المتابعين لعلاجه لا يترددون في إعادته إلى البيت حين يقترب موعد زيارة الطبيب. تتميز تلك الزيارات بممارسات معبرة عن معاني المودة، فكان خلالها يدعو الممرض الطبي الذي يرافقه إلى إحضار ما يتواجد من الهدايا من حقيبة سيارته ليوزعها علينا، كانت عملية التوزيع بنداً من بنود تواجده، فيوزع العطور وأحياناً فانيلات شتوية، وفي أحيان أخرى يوزع ما توافر من الساعات ذات السعر المعنوي، وكان يحثنا على الاحتفاظ بها، وتجمعت لدي بعض هداياه، صارت هذه الممارسة منبع المتعة التي يجدها معنا. كانت هذه الجلسات الخاطفة تغذيه بشيء من الشعور بالبهجة قبل أن يتركنا عائداً إلى منزله بحماية الممرض الضخم، وكنت أشجعه على التواصل؛ لأنه يستطعم السوالف ويتذوق محتواها. في آخر أسبوع، بعد انقطاعه، كنت اتصل بأولاده، وأحياناً بالمقربين منه لمعرفة مساره الصحي، مدفوعاً بالقلق مع حرص على سلامته وعلى أمل أن يشاركنا اللقاء، فالعزلة لا تناسب طبيعته الاجتماعية الإنسانية. كان جاسم المرزوق شبكة من حميد الصفات، وسلة مملوءة بأعذب الطباع، ملك السماحة التي تميزت بها علاقته مع الجميع، وأحب الخير لكل من عرفه، وسعى إلى عون كل من يحتاج إليه، ناثراً مشاعر المودة لمن حوله ولكل من تعامل معه، حاملاً الكثير من جمال دنياه المملوءة بالاطمئنان، والمحصنة بالنزاهة، والمحمية بالعفة، كان التزامه بأصول الصداقات قوياً، مع حرص على أن يكون الصفاء والانفتاح وتبادلية الثقة عمود هذه الصداقات. وفر له سبحانه وتعالى ظاهرة الكاريزما، وهي المادة الكيماوية التي تضخ نزعته الحميمية الآسرة، مع عقل نضج واعياً لأصول حسن التصرف. لم تكن مفاجأة أن يختاره المرحوم الشيخ جابر الأحمد (رئيس الوزراء في السبعينيات) وزيراً للعدل؛ فالرجل مناسب، درس القانون بتكوين شخصي يصده عن التطاول على القوانين، ثم تحول إلى وزير للتربية لمدة أربع عشرة سنة، كان فيها الرجل المناسب، لأنه وجد فيها موطنه، وفي بيئة مسؤوليتها ترسيخ القيم والخلق، وتعظيم الترابط مع المجتمع الكويتي المبني على مبادئ ورثها شعب الكويت في الوحدة والهمة والتضامن، وحقق نجاحاً رسمياً وشعبياً بارزاً، فمن أسباب نجاحه أنه ترك الجوانب الفنية للمختصين العارفين، بينما كان دوره مساندتهم ورعاية المسيرة وفق القيم التي اعتاد عليها في حياته. كانت جامعة الكويت في عهده هدفاً لأفضل الكفاءات العربية في العلم والتربية، كانت مجموعة الكواكب تضم زكي نجيب محفوظ، ود. فؤاد زكريا، وأحمد أبو زيد، ود. محمد جواد رضا، ود. شاكر مصطفى. أشعلت هذه المجموعة أجواء جامعة الكويت بحيوية العلم والوعي بدور المعرفة، وحقوق التفوق، واحترام المواهب، والتسابق نحو المعرفة واكتسابها. جاء الوزير جاسم المرزوق إلى نيويورك في منتصف السبعينيات للوقوف على شؤون المكتب الثقافي في واشنطن، ورتبت له لقاء مع السفراء العرب في المطعم الرئيسي داخل مبنى الأمم المتحدة، ووقف يتحدث عن الترابط العربي عبر آليات التعليم وعن دور الثقافة في تعزيز العلاقات بين الدول العربية، مشيراً إلى التعاون الذي تتميز به علاقات وزراء التربية العرب، وأثنى السفراء على كلماته، كما كنت معه في واشنطن في اللقاءات مع الطلبة الذين احتفلوا في حفلة طغت عليها الفنون الكويتية، وكان التلاقي بينه كوزير وبين الطلبة غير مسبوق في الارتياح المتبادل، كانت آليات الجاذبية لديه تتناسب مع دوره كمرشد للطلاب. ترك وزارة التربية وأصبح وزيراً للتجارة والصناعة، وجاء إلى مجلس التعاون في الرياض لحضور اجتماعات وزراء التجارة لدول مجلس التعاون، وانسجم مع الوزراء الذين التقى بهم أول مرة، لأنه يجيد حسن المعشر ويملك مقدرة مميزة في نيل ثقة الآخرين وكسب اطمئنانهم. تمتع، خلال عمله الوزاري، بثقة القيادة السياسية التي ارتاحت لطبائعه الإنسانية العالية، ونبل المحتوى في مسلكه، وأدركت قدرته في التعامل مع الآخرين، وقدرت تفانيه في حمل أعباء المسؤولية، وتواصله مع مختلف المشارب في الأجواء السياسية الكويتية. كان محترماً من قيادات القوى السياسية الكويتية، التي كان لها حضور قوي لدى الرأي العام ولدى النواب، كما كان مقبولاً بمساندة من هذه القوى، وأعتقد أن القيادة الكويتية على معرفة بإمكاناته كعنصر مهدئ وساع لمحاصرة المتاعب والمشاكل في حواراته مع تلك القوى. وخرج من العبء السياسي وتفرغ للعمل الخاص معتمداً على أبنائه الخيرين، لكنه أبقى على مسيرته الإنسانية التي تشكل العنوان الكبير في حياته. أعرف شيئاً قليلاً عن حجم السخاء الذي يرافقه لمساعدة الآخرين، فقد كان سخاؤه دائماً مغلفاً بالصمت والسكون، فلا يعرف أحد من يعطي ولمن يتبرع، لكنني بحكم الصداقة أعرف حجم العطاء، وسبحان الله، كلما أعطى زاد الخير، فقد خصه الخالق بالفال الطيب، فتأتي الحصيلة على قدر النوايا. كنت أقول له دائماً إنه يصلح كمفوض لحقوق الإنسان في هيئة الأمم المتحدة، فيتقبلها كمجاملة تسعده، كان مناسباً في بنيته الأخلاقية وفي محتواه الإنساني لمثل هذا المجال. في آخر أسبوع من حياته انقطع التواصل معنا، اتصلت بابنه الذي طمأنني، وكنا نعتزم زيارته في البيت للمزيد من الاطمئنان، لم يمهلنا قضاء الله وقدره، فتوفي تاركاً سجلاً نظيفاً تجمله الوطنية المتوهجة، ومطعماً بالمشاعر الإنسانية ونبل الخلق والعفة الراقية وشهامة التواضع. لم نحضر التشييع فقيود الوباء حرمتنا من الوقوف على قبره، لأسجل، وبكل اقتناع، هنا يرقد إنسان له لسان سليم وعقل حكيم وخلق عظيم، ومثواه في جنات النعيم. رحم الله جاسم المرزوق وأسكنه واسع جناته، ولعائلته الصبر والسلوان، سنظل كأصدقاء نتذكر الكثير من حالات تجلت فيها خصاله الحميدة، ليس في الممر الإنساني فقط، وإنما في صفاء الولاء الوطني وبالاعتزاز بالمعاني الوفية لتراب الكويت التي جسدها ترابط أبناء الكويت، خصوصاً عند الأزمات.. وكل نفس ذائقة الموت. *نقلا عن "القبس"

مشاركة :