«امرأة يقدسها الإسرائيليون ويكرهها العرب.. لكن الكل يتفق على أنها امرأة استثنائية». عندما قررت أن أكتب سلسلة مقالات عن نساء في ذاكرة التاريخ لم أضع علامتي الشر والخير كمعيار انتقاء؛ لأن دلالتهما غالبا متحركة ولا تخضع للاتفاق الجمعي، ولذلك حرصت أن تكون صفة الذات الجدلية هي معيار انتقاء. ولدت جولدا مائير في أوكرانيا بمعنى أنها كانت شاهد عيان على حركة الاضطهاد والتصفية التي مارستها روسيا القيصرية على اليهود ثم هاجرت إلى أمريكا ثم إلى فلسطين، وقد عاشت طفولة بائسة تقول في كتابها حياتي ترجمة عزيز عزمي «لا أحتفظ بأي ذكريات سعيدة أو سارة عن تلك الفترة فقد عانت عائلتي من الجوع والفقر والخوف ولعل أبرز ما علق في ذاكرتي هو أنني خائفة». وتقول: «لقد مر بي هذا الشعور كثيرا خلال حياتي؛ الخوف، الإحباط، الوعي بالاختلاف والإيمان الغريزي العميق بأن الفرد إذا أراد البقاء علي الحياة فلابد أن يتخذ تحركا فعالا بنفسه». وبذلك فنحن أمام ذات غاضبة وحادة أنهكها الخوف والإحباط ورسّخت كل تلك العتبات النفسية داخلها مبدأ أن البقاء للأقوى؛ لأن الحياة كما تقول «قاسية ولا يوجد عدل في أي مكان» وفقدان المرء إيمانه بوجود عدالة تدفعه لصناعة قانونه الخاص الذي يفرض من خلاله العدالة التي يعتقدها وهذا يخلق الذات الطاغية. إن الخوف والغضب والإحباط ونشأة الذات على الظلم والاضطهاد دوافع لتشكيل الشخصية الانتقامية. فجولدا مائير شخصية انتقامية حادة وهذا ما شكل منها شخصية جدلية وكأنها عاشت طوال حياتها في دور»المدافِع» سواء بصيغته الذاتية أو النيابة منذ إن كانت طالبة في المرحلة الابتدائية تجمع التبرعات لشراء الكتب حتى انضمامها لمنظمة العمل الصهيونية التي مهدت لها الانخراط في العمل السياسي. لقد استنتجت جولدا مائير من الحياة البائسة التي عاشتها في طفولتها أن القيمة والأهمية والقوة هي التي تمنح المرء الأمن، وهذا المنطق هو الذي تأسست في ظله مبادئ السياسة الإسرائيلية، كما أنه منطق كل اليهود الذين عاشوا في ظل الاضطهاد. تميزت جولدا مائير بشخصية استقلالية منذ إن كانت في المرحلة الابتدائية وعاشت بمفردها في سن السادسة عشرة كما كانت شخصية عنيدة ومتحدية ولعل هاتين الصفتين كانتا سببا في التصادم بينها وبين أبيها وأمها وهما صفتان صنعتا منها «امرأة النيران» أسوة بشخصية «ديبورا». نشأت جولدا مائير في زمن كان «الجمال مصدر قوة المرأة» وخاصة المرأة اليهودية التي كانت أيقونة للجمال العالمي في كل مجالات الفن، وكونها كانت تفتقد ملامح الجمال فهي كما تقول «لماذا لم يكن لي شعر أسود وعيون كبيرة براقة؟ لماذا لم أخلق أكثر جاذبية؟» ولعل الإحساس بنقص الذات الجمالية مع إيمانها بأن القوة والقيمة والأهمية هم مصدر حماية كان عليها أن تجد مصدرا يحقق لها ثلاثية الحماية تلك فوجدته في العمل العمالي لأنه يمنحها القيمة والأهمية والسيطرة ثم الانضمام إلى الحركة الصهيونية التي كما قالت «ببطء بدأت تملأ عقلي وحياتي» وقد أجادت بلاشك الاختيار؛ فالصهيونية جعلت منها أشهر امرأة يهودية في تاريخ إسرائيل الحديث فتفوقت قوتها وتأثيرها على أجمل جميلات العالم. اعتنقت جولدا مائير الصهيونية التي وصفتها بأنها حركة رائعة، وقد آمنت بمبادئها المبنية على العنصرية والتعصب فكرا وسياسة وهذا ما سرّع رحلتها في مجال الحراك العمالي ثم الحراك السياسي الذي نضج بانتخابها كعضو في الكنيسيت الإسرائيلي 1949م أي بعد تأسيس دولة إسرائيل بسنة واحدة ثم وزيرة للعمل وبعدها وزيرة للخارجية حتى أصبحت أقوى شخصية في إسرائيل فاستحقت أن تكون المرأة الوحيدة التي أصبحت رئيسة وزراء بل وأقوى امرأة في تاريخ إسرائيل الحديث لتتساوى مع مرتبة وقيمة كل من «استر»و «ديبورا» في تاريخ إسرائيل القديم.
مشاركة :