مستقبل الاتحاد الأوروبي بعد أزمة كورونا: رؤية استراتيجية

  • 5/4/2020
  • 01:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

لست من أنصار التسرع لإصدار الأحكام بشأن تحولات غير معروف ملامحها، فخلال متابعة أزمة كورونا التي أضحت حديث العالم وما أحدثته وسوف تحدثه من تداعيات على كافة مناحي الحياة، لاحظت ظهور تحليلات تجمع على أن الاتحاد الأوروبي كتنظيم إقليمي سوف يكون مصيره الانهيار، في مقابل ذلك ساد تيار فكري يجمع على أن الاتحاد الأوروبي لديه القدرة على تجاوز تلك الأزمة كغيرها من الأزمات السابقة، وواقع الأمر أنا لست من أنصار التهوين أو التهويل ولكن دائمًا ما أحاول أن أضع الأمور في سياقها الصحيح، والذي يتأسس على خبرات تاريخية لتلك التجمعات وطبيعة الأزمة الراهنة من ناحية ثانية، فضلاً عن أهمية تلك التجمعات من ناحية ثالثة.صحيح أن الأزمة كانت تحديًا هائلاً للاتحاد الأوروبي لسبب مؤداه أنه في الأزمات دائمًا ما يبحث الأفراد عن حلول إذا لم تكن متاحة في بلدانهم فأمر طبيعي أن تكون التطلعات صوب المظلة الجماعية التي تحظى الدولة بعضويتها، المشهد الأوروبي كان مرتبكًا للغاية ولكن لم يكن الأمر يخص أوروبا بذاتها ولكنه كان جزءًا من مشهد عالمي، فعالم الصراعات والحروب التقليدية وغير التقليدية قد استيقظ فجأة على أزمة نوعية يعتمد حلها والتعامل معها على ما لدى كل دولة من قدرات وإمكانات في المجال الطبي للحد من تفشي ذلك الوباء، وكان التساؤل الأول في الدول الأوروبية أين دور الاتحاد الأوروبي كمنظمة أمن إقليمي؟ والواقع - وهذا ليس دفاعًا عن الاتحاد كمنظومة للأمن الإقليمي- وإنما انطلاقًا من اعتبارات الواقع، فالأزمة كانت مفاجئة ولم يكن هناك أي توقعات بانتشار الوباء بسرعة على هذا النحو حتى أجهزة الاستخبارات ذاتها لم يكن لديها تقارير مؤكدة بشأنها، من ناحية ثانية فإن القضايا الصحية والطبية ليست من صميم عمل مفوضية الاتحاد الأوروبي وإنما هي مسؤولية كل دولة على الصعيد الوطني على الرغم من وجود مواد ضمن الميثاق المنشئ للاتحاد الأوروبي تنص على التنسيق والتعاون.ولا يعني ما سبق أن الأزمة لم يكن – ومازال - لها تأثير على الاتحاد الأوروبي، فلقد لاحظنا ما عرف «بحرب الكمامات» من خلال استيلاء بعض الدول الأوروبية على شحنات تضم مستلزمات طبية كانت في طريقها لدولة أخرى، فضلاً عن ظهور استياء في أوساط الرأي العام الأوروبي من طريقة تعامل الاتحاد كمنظمة مع الأزمة التي بلغ مداها في الدول الأكثر تضررًا ومنها إيطاليا التي قال رئيس وزرائها «يجب على الاتحاد الأوروبي عدم ارتكاب أخطاء فادحة في معالجة أزمة كورونا وإلا فإن التكتل الأوروبي سوف يفقد سبب وجوده» هذا التذمر الذي وجد صداه أيضًا على المستوى الشعبي سواء من خلال قيام بعض الأفراد بإنزال علم الاتحاد الأوروبي ورفع علم الصين بدلاً منه أو ما أشارت إليه نتائج استفتاء تم إجراؤه في إيطاليا من أن حوالي 71% من الإيطاليين يعتقدون أن وباء كورونا يقوض الاتحاد الأوروبي، أما 55% فقد أبدوا موافقتهم على الخروج من الاتحاد الأوروبي.ولا يمكن التهوين من آثار الوباء على الاتحاد الأوروبي إلا أنه في الوقت ذاته لا يجب التهويل لثلاثة أسباب أولها: بغض النظر عن الطريقة التي تعامل بها الاتحاد مع الأزمة فإنها لن تكون سببًا لانهياره كونه تنظيمًا إقليميًا لم ينشأ بين عشية وضحاها وإنما عبر عقود طويلة منذ النواة الأولى له وهي الجماعة الأوروبية للفحم والصلب بين ست دول آنذاك لتبلغ في الوقت الراهن 28 دولة، وتطور بشكل تدريجي وواجه تحديات وأزمات غير مسبوقة ومنها أزمة الديون اليونانية أو الهجرة غير الشرعية الى بلدان الاتحاد الأوروبي من مناطق الصراعات وكانت تلك الأزمات كفيلة بتهديد كيان الاتحاد إلا أن دوله تجاوزتها، وثانيها: أن لدول الاتحاد مصلحة استراتيجية لبقاء تلك المنظومة ليس فقط للتعبير عن هوية أوروبية موحدة وإنما في ظل ما يبدو للدول الأوروبية من تصدع أسس الشراكة الأمريكية-الأوروبية والأمثلة على ذلك عديدة ومن ثم فإن النتيجة الحتمية لذلك هي ضرورة وجود كيان أوروبي له مظلة دفاعية مستقلة نسبيًا عن الأطر التقليدية كحلف الناتو، بالإضافة إلى استمرار روسيا كتحد مشترك لدول الاتحاد الأوروبي وهو ما تعكسه العديد من مناطق التماس الاستراتيجي الراهنة بين الجانبين والقضايا الخلافية، وثالثها: أنه على الرغم من أنه لم تكن هناك استجابات فورية من المفوضية الأوروبية للتعامل مع الأزمة إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود خطط جماعية، فمن ناحية أقرّ وزراء المالية الأوروبيون خطة إنقاذ ضخمة بقيمة 500 مليار يورو من أجل مساعدة الدول الأعضاء الأكثر تضررًا من الوباء كما لاتزال هناك مناقشات حول ما يمكن أن يكون «خطة مارشال جديدة» لدعم اقتصادات الدول الأوروبية للتعامل والتعافي من أزمة كورونا.ولكن هل يعني ما سبق أن الاتحاد الأوروبي سيكون هو ذاته ما بعد كورونا؟ وقد يكون من المبكر للغاية الحديث عن تحولات جوهرية في عمل الاتحاد الأوروبي إلا أن هناك مؤشرات يمكن البناء عليها ومتابعتها وأولها: ترسيخ الانقسام بين دول الجنوب الأكثر تضررًا ونظيرتها الشمالية الأقل تضررًا وعما إذا كانت الأخيرة يتعين عليها تحمل فاتورة هذا الضرر وإلى أي مدى؟، وثانيها: إمكانية تعزيز دور التيارات اليمينية الداعية للانعزال والتنصل من الالتزامات تجاه الالتزامات في الاتحاد الأوروبي ككيان جماعي والدعوة للانسحاب منه ولم يكن قرار فرنسا بتأجيل الانتخابات البلدية سوى تعبير عن تلك المخاوف حيث إن المساءلة الشعبية في الدول الأوروبية ما بعد انتهاء تلك الأزمة ستكون حاضرة وبقوة، وثالثها: تعثر بعض المشروعات الأوروبية المشتركة ومنها المقترح الفرنسي بإنشاء جيش أوروبي موحد ليس فقط بسبب العوامل الاقتصادية بل لزيادة هوة الشقاق بين الدول الأعضاء على خلفية تلك الأزمة.ومع التسليم بتأثير تلك الأزمة على الاتحاد الأوروبي ففي تصوري أن الاتحاد ربما يكون على دوله الأعضاء إعادة النظر في تفعيل مبدأ التضامن ذاته وخاصة إبان الأزمات من خلال إقرار خطة للطوارئ والأزمات بغض النظر عن طبيعة تلك الأزمات والتي لم تعد أمنية فحسب، كما أنه وتكاملاً مع الميثاق المنشئ للاتحاد ربما يتم إطلاق خطة للأمن والتعاون الأوروبي بمفاهيم وآليات جديدة تأخذ في اعتبارها القدرات والأولويات وذلك على غرار المفهوم الاستراتيجي الذي يصدره حلف الناتو، أو ربما يتم تعديل بعض المعاهدات والاتفاقات بين دول الاتحاد. وبغض النظر عن المسار الذي يمكن أن تسلكه دول الاتحاد فإن الحقيقة التي لا جدال فيها هو أن تلك المنظومة التي تعكس تكاملاً بين أنساق فكرية وآيديولوجية تواجه تحديًا يتطلب استجابات استراتيجية مدروسة. ‭{‬ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»

مشاركة :