وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب مجازر الأرمن بأنها واحدة من أسوأ الفظائع الجماعية في القرن العشرين. وقال المرشح الرئاسي جو بايدن إن عدم الاعتراف بهذه الإبادة الجماعية يمهد الطريق لفظائع جماعية مستقبلية. وكانت فرنسا قد أعلنت 24 أبريل يوما وطنيا لإحياء ذكرى الإبادة، وكذلك ألمانيا وإيطاليا وسويسرا وكندا وروسيا وبولندا والسويد والبرازيل والأرجنتين وعشرات الدول الأخرى، بالإضافة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة حقوق الإنسان. ففي عالم اليوم لم يعد من المقبول إنكار أو تجاهل مقتل مئات آلاف المدنيين في عملية وحشية حصلت بين عامي 1915 و1916 وابتدأت بقتل الذكور وانتهت بترحيل النساء والأطفال والمسنّين في مسيرات الموت إلى البادية السورية، مع ما رافقها من اعتداءات وتجويع واغتصاب طوال رحلة الشقاء بحيث مات أغلبهم على الطريق، ورافقتها في الفترة نفسها مجازر مماثلة استهدفت السريان والآشوريين والتي أدّت أيضا إلى سقوط مئات آلاف الضحايا الذين يشتركون مع الأرمن في أنهم يتّبعون نفس الدين. ولا يوجد خلاف على أن ما حدث في الأناضول في تلك الأيام ينطبق عليه تعريف الإبادة الجماعية لأنها استهدفت عمدا مجموعات بشرية محددة بإشراف وتوجيه من أعلى المسؤولين في الدولة، ولكن حتى يكون لهذا الاعتراف معنى وحتى يصبح بالإمكان طي صفحة هذه المأساة الإنسانية، يجب عدم تجاهل دور المجتمعات المحلية من الأتراك والأكراد في هذه المجازر بدل اختصارها بجريمة قامت بها حكومة قومية متشددة في دولة زالت من الوجود هي الدولة العثمانية. وقد تناول الزميل رستم محمود هذا الجانب في مقاله الجريء على موقع الحرة: "من ماردين إلى سنجار، عن الذين ذبحوا جيرانهم" وقال فيه إن إلقاء اللوم على الدولة العثمانية ليس كل الحقيقة، فهناك من اشترك فيها من المجتمعات المحلية المملوءة بمشاعر الكراهية والغضب، "عندما كان الأهالي يسبقون أدوات الدولة ويساندونها ويشاركونها في أفعالها وفي مرات غير قليلة ينفذون هم ما لا تستطيع هي أن تفعله". أرادوا دمشق بدون باب توما وباب شرقي والقصاع، وأرادوا حلب بدون الجديدة والسليمانية والعزيزية ومحطة بغداد والميدان وحتى يكون هذا الاعتراف صادقا لا بد من الإقرار بأن هذه المجازر لم تكن عملية استثنائية معزولة بل كانت تتويجا لعقود متواصلة من اضطهاد المسيحيين سبقت وأعقبت تلك المجازر، تضمّنت في بعض الأحيان عمليات نهب للكنائس والمتاجر والمنازل وتطبيق إجراءات تمييزية مثل الضريبة التي تم فرضها في أربعينيات القرن الماضي على الممتلكات ضمن الدولة التركية بحيث كان على الأرمن أن يسددوها بنسبة 232 في المئة من رأسمالهم واليهود بنسبة 179 في المئة واليونانيين بنسبة 156 في المئة بينما كانت على الأتراك المسلمين 5 في المئة فقط، ومن لا يتمكن من دفعها كان يرسل لمعسكرات الاعتقال، حتى انخفضت أعداد المسيحيين من عشرين في المئة من سكان أراضي تركيا الحالية في بداية القرن العشرين إلى ما دون النصف في المئة اليوم. وكذلك لا بد من الإشارة بأن هذه الممارسات التمييزية ضد المسيحيين لم تقتصر على تركيا فقط بل شملت مناطق واسعة في الشرق الأوسط وما زالت مستمرة حتى اليوم. ففي سوريا كان المسيحيون يشكلون ربع السكان في بدايات القرن العشرين، وانخفاض نسبتهم إلى 13 في المئة في بداية سبعينيات القرن الماضي لم يستطع التأثير على طبيعة سوريا كبلد متنوع في تركيبته الطائفية والدينية ولا على انفتاحه الاجتماعي والثقافي. حينها أتى ورثة الذين ذبحوا جيرانهم قبل عقود في موجة جديدة من التشدد والتطرف الديني تحت شعار الدعوة للدين الحق الذي يعتبر كل ما عداه من الأديان باطل ـ كما هو مذكور في الكثير من المراجع الإسلامية مثل إسلام ويب، وابن باز، وطريق القرآن، والإسلام سؤال وجواب، وحتى شيخ الأزهر الحالي قال في مقابلة تلفزيونية عام 2017 "لا يوجد أديان بل هناك دين واحد هو الإسلام" ـ للعمل على نشر رؤيتهم هذه فقد جعلوا من كل مسلم داعية من واجبه العمل على تغيير كل محيطه من مسلمين وغير مسلمين، لجلبهم إلى "دينهم الحق". واستهدفوا بشكل خاص المسيحيين حيث كانوا يتعمّدون بناء مساجد في قلب الأحياء المسيحية وشراء المحلات التجارية في قلب هذه التجمعات ووضع تسجيلات القرآن بصوت عال من الصباح الباكر، والضغط بالترغيب والترهيب لإغلاق البارات والمتاجر والمطاعم التي تقدم أو تبيع مشروبات روحية، بحيث خلت شوارع دمشق الرئيسية خلال سنوات قليلة منها. وفي العقد الأخير بدأت عمليات شراء منازل ومتاجر ومطاعم يملكها مسيحيون في دمشق القديمة من قبل إيرانيين لتغيير طبيعتها باتجاه طائفة إسلامية أخرى، فعلى ما يبدو أن المتطرفين من السنّة والشيعة قد وجدوا بينهم قاسما مشتركا هو العمل على إخراج المسيحيين من أحيائهم في دمشق. لقد أرادوا دمشق بدون باب توما وباب شرقي والقصاع، وأرادوا حلب بدون الجديدة والسليمانية والعزيزية ومحطة بغداد والميدان، وأرادوا سوريا بدون معلولا وصيدنايا ووادي النصارى و2000 قرية وبلدة مسيحية منتشرة من شمال سوريا لجنوبها ومن شرقها لغربها هي كل ما تبقى اليوم من سوريا المنفتحة التي نعرفها. على ما يبدو أن المتطرفين من السنّة والشيعة قد وجدوا بينهم قاسما مشتركا هو العمل على إخراج المسيحيين من أحيائهم في دمشق وكانوا كلما أغلقوا مدرسة حديثة مختلطة، وافتتحوا بدلا منها مدرسة شرعية أو حوزة علمية تخرّج رجال دين وداعيات إسلاميات يحتفلون بإنجازهم هذا كانتصار للإسلام، وعملوا كل ذلك بالتنسيق مع نظام الأسد هو يحميهم وهم يكيلون له المديح ويزودونه بكل ما يحتاجه من الجواسيس والمخبرين. ولم يتأثر ولاء هؤلاء وإخلاصهم للنظام رغم كل ما شهدته سوريا خلال السنوات الأخيرة، ولكن الأمر الغريب كان وجود الكثير من المسيحيين والأرمن الذين ما زالوا يدافعون عن هذا النظام الذي باعهم لأربعة عقود لمتطرفي السنّة ويبيعهم اليوم لمتطرفي الشيعة حتى انخفضت نسبتهم في سوريا إلى حدود الخمسة في المئة. وما كنت شاهدا على حدوثه في سوريا كان نسخة قريبة لما حصل في مصر والعراق، حتى طغى اللون الأسود المفضل عند المتطرفين الإسلاميين على دمشق وبغداد والقاهرة واقتربت هذه المدن بأشكال الناس وأزيائهم وانغلاقهم الاجتماعي وتزمّتهم الأخلاقي ومحاكمهم الشرعية من قندهار وقم. كما أنه لن يكون للاعتراف الرسمي بمجازر الأرمن والسريان قيمة وانعكاس حقيقي على أرض الواقع إذا لم يتم إدخالها في المناهج التعليمية حتى تطّلع الأجيال الجديدة على حقيقة هذه الجرائم المخزية. كذلك يجب أن يذكرها الأدب والفن والإعلام، وهذا لم يحصل حتى الآن في أغلب الدول العربية والإسلامية، بل لا يوجد في هذه البلدان ما يوحي بأن هناك شعورا بالندم أو الخجل من هذه المجازر، رغم أنه حتى نستطيع أن نطلب من العالم أن يتضامن مع قضايانا العادلة، يجب أن تكون مواقفنا واعتباراتنا أخلاقية وإنسانية وأن نقف مع أي مظلوم بغض النظر عن عرقه ودينه وطائفته.
مشاركة :