بدايةً، أسجّل أنني ضد تديين السياسة وضد التوجه السياسي للإخوان المسلمين، لأنّ الإسلام، وهو دين الحق، أكثر رحابة وسمواً من ان تحتكره جماعة من هنا وجماعة من هناك، إضافة الى اقتناعي بما ذهب اليه الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» بأنّ لا خلافة في الإسلام، وأنّ «الدولة» وإن وجدت زمن الخلفاء الراشدين، لم تكنْ «إسلامية» بالمعنى الديني. وأضيف أنّ «الإخوان» ارتكبوا أخيراً في مصر ما لا يُعد ولا يُحصى من «المعاصي» السياسية: الاستئثار بالسلطة، «أخْوَنة» البلاد والعباد، النكوص بكل التعهدات، أوّلها عدم الترشّح لرئاسة الجمهورية وآخرها سلسلة الوعود التي تعهّد الرئيس محمد مرسي تحقيقها خلال مئة يومٍ من توليه الحكم، ومنها تخفيف حجم القمامة من شوارع القاهرة! نورد ما سبق، في ضوء أحكام الإعدام القضائية القاسية التي أصدرتها محكمة جنايات شمال القاهرة الأسبوع الماضي، وقضت بإعدام مرسي وقيادات الجماعة و104 آخرين. الإدارة الأميركية اعربت في بيانٍ عن انزعاجها الشديد من الأحكام ووصفتها بأنّها «موضوعة بدوافع سياسية». جوش إرنست متحدث البيت الأبيض قال إنّ بلاده «تشعر بالقلق العميق من الأحكام المسيسّة التي أصدرها القضاء المصري». الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، عبّر عن «قلقه العميق» كرد فعلٍ على الأحكام التي صدرت. رئيس المجلس النيابي الألماني قاطع زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى ألمانيا. أحكام الإعدام التي صدرت الثلثاء 16/6/2015، تُشكل نكسةً لتراث مصر الحضاري وانتقاصاً من الحرص على حقوق الإنسان، ولعلّها تُدرج ضمن المخالفات الجسيمة لمبادئ العدالة التي يجب أن ترعى إصدار أي حكم قضائي. داود الشريان عنوَن مقاله حول أحكام الإعدام تلك بِـ «إعدام الاستقرار في مصر» («الحياة» 17/06/2015). الاقتناع السائد، أنّها أحكام سياسية في الشكل والمضمون، وأنّها بالنتيجة خاضعة لمزاجية سياسية. ولعلّ الابتسامة التي علت وجوه المتهمين وهم في قفص الاتهام، يصغون إلى ما نطق به القاضي، تشي بعدم اكتراثهم بالأحكام التي صدرت. وهنا تحضُرُني أحكام البراءة التي صَدَرَت أخيراً بحق الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وأبنائه، مع مسؤولين سابقين، والتي هي على تناقض تام مع الأحكام القضائية التي صدرت قبل عامين والتي دانت مبارك وجماعته. إعدام جمال عبد الناصر أوائل الستينات سيد قطب زعيم الإخوان المسلمين آنذاك، لم يؤدِّ الى الاستئصال السياسي للإخوان، بل زادهم نفوذاً. وأميلُ إلى الاعتقاد أنّ الأمر نفسه سيحدث اليوم. لا يمكن دحض فكرٍ إلاّ بالفكر وبالحجة المضادة، علماً أنّ حرية الرأي والتعبير لا يجب أنّ تكون محلّ خلاف. ولكنّ الأمر في مصر وصل الى حد التخوين، فإذا كنت مع توجهات النظام فأنت وطني، وإذا كنت إخوانياً، فأنت خائن. كان من المؤمل بأن يكون الجيش المصري عقب ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، حامي الديموقراطية، لكنّ، يبدو أنّ قدر مصر، منذ ان تولّى «الزعيم الخالد» جمال عبد الناصر الحكم، أن تُسَلِّمْ زمام أمرها للمؤسسّة العسكرية... والثابت كما يُشير خالد فهمي أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في القاهرة في كتابه «كلّ رجال الباشا»، أنّ الدولة المصرية، منذ عهد محمد علي، كانت في خدمة الجيش، لا العكس! وللتذكير فقط، فالمؤسسات التابعة للجيش المصري تشكل 30 في المئة من الاقتصاد القومي المصري ونفوذه يمتد الى قطاعات مختلفة. أيُّ مراقبٍ لما آل إليه الوضع في مصر، يلحظ قبضةً بوليسيّة تتحكم برقاب العباد، وأنّ الجهد منصبٌ على قوننة العمل السياسي وتجفيفه، وصولاً إلى إلغائه، ما يزيد من الاحتقان السائد، بدل العمل على تنفيس ذلك الاحتقان وتعزيز آليات العمل الديموقراطي. التقارير الصحافية تُشير إلى أن 163 حالة إخفاء قسري او احتجاز من دون تحقيق تمّ رصدها في مصر في 22 محافظة منذ نيسان (ابريل) 2015، بينها 60 حالة اخفاء قسري وفقاً للمعايير الدولية و31 حالة من دون متابعة، و64 حالة إخفاء قسري منتهية، حيث تمّ التأكد من ظهور المعنيين بعد مرور أكثر من 24 ساعة على احتجازهم من دون وجه حق، ورد ذلك في صفحة «الحرية للجدعان» (مجموعة من المحامين المتطوعين) التي حدّدت مصادرها بدقة. (زينب ترحيني، «السفير العربي» في18/6/2015). أحكام الإعدام التي أصدرتها محكمة جنايات القاهرة الأسبوع الماضي، ذكّرتني «بأجواء» محاكمة أخرى، هي نقيض أجواء محاكمات القاهرة، علماً انّ المتهمين دينوا بمحاولة انقلاب. كان ذلك ليل 30- 31 كانون الأول 1961، حين قام الحزب القومي السوري بمحاولة انقلاب لإطاحة فؤاد شهاب، رئيس الجمهورية آنذاك. بلغ عدد المشاركين في المحاولة الانقلابية 179 فرداً، منهم 11 عسكرياً، بينهم ثلاثة ضباط. شكلّ الانقلاب هاجساً لدى الطبقة السياسيّة اللبنانية. فسُمعت أصوات وكانت طاغية، تطالب بإعلان الأحكام العرفية وحالة الطوارئ ومن ثمّ إحالة الانقلابيين على محكمة عسكرية خاصة. لكنّ الراحل الكبير الرئيس اللواء فؤاد شهاب، العسكري/ الديموقراطي، وفق ما وصفه الراحل غسان تويني، رفض تلك الدعوات. بل، أكثر من ذلك، أصرّ على ان تنظر محكمة التمييز العسكرية برئاسة قاضٍ مدني (أميل ابو خير) وعضوية ضباط عسكريين، بأحكام الإعدام التي سبق أن أصدرتها محكمة عسكرية ابتدائية. وفي ضوء مخالفة رئيس المحكمة أميل ابو خير أحكام الإعدام - لأنّه اعتبر انّ الجريمة هي جريمة سياسيّة - رفض الرئيس شهاب توقيع مراسيم الإعدام تأييداً لقرار القاضي أميل ابو خير. في نهاية عهده، أصدر الرئيس شهاب مرسوماً قضى بإبدال عقوبة الإعدام بالحكم المؤبد. ولاحقاً، في عهد الرئيس شارل حلو، والذي يُعدّ في بداياته تتمّة لعهد الرئيس شهاب، صدر عام 1969 قانون عفو شامل عن المحكومين. (راجع مسعود ضاهر، «محاولة الحزب القومي الانقلابية عام 1969» ، «النهار» 6/7/2003). ليتَ أصحاب الشأن في مصر العزيزة يحذون حذو الرئيس اللبناني الراحل شهاب، (وهو القائل في خطاب القسم، 23/9/1958 «بين مركز قيادة الجيش حيث الصمت رفيق الواجب، ومنبر هذه الندوة حيث الكلام هو السيد»)... الذي حرصَ على عدم إراقة الدماء تعزيزاً للعمل الديموقراطي والوحدة الوطنية. فالقضاء اللبناني، وفي حالة «الحزب القومي السوري»، الذي قاد انقلاباً ضد الحكم (وهو ليس حال مرسي وجماعته الذين لم يقوموا بانقلابٍ عسكري) وظّف كآلية للإصلاح وليس للانتقام او التشفّي. وكم نتمنى من صميم القلب ان تسري الأمور في هذا المنحى في مصر العزيزة والتي يُعتبر استقرارها محطّ أنظار العرب، كلّ العرب! * كاتب لبناني
مشاركة :