الإعلامي السعودي أحمد الشقيري يقدم في النسخة الأخيرة من برنامجه «خواطر» درساً بليغاً للمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية التي على الإعلام أن يتحلى بها، حتى يكون إعلام تغيير ودعم وإسناد، لا إعلام مسخرة وتطبيل وتمجيد ومسح جوخ! ولعل سر نجاح الشقيري، الذي يناهز عدد من يتابعون حلقات برنامجه العشرين مليون شخص، أنه عرف وصفة التميز عبر الاقتراب من حاجات الناس واحترام ذكائهم، وهو أمر على بساطته يغفله، أو يتغافل عنه الكثيرون والكثيرات ممن يشتغلون في قطاع الإعلام، وخاصة الحقل المتصل مباشرة بالجمهور. الإعلام لم يعد «شو»، ولم يعد أيضاً شكلاً جميلاً لمذيعة تتوخى الغنج، أو مظهراً وسيماً لمذيع متذاكٍ، حتى يستمر الأمر ويحقق الانتشار، ويؤدي دوراً في التغيير، حتى لو اقتصر هذا التغيير على بناء منزل لأسرة معوزة، أو تمكين طفل من أن يرى، أو رسم ابتسامة على جبهة شاب سوري جرى تركيب ساق اصطناعية له مكّنته من المشي ومزاولة الحياة بعد عطالة دامت سنوات. والحكاية ليست قدرة أي منا، إذا حمل الميكروفون، على فعل ذلك، لا سيما إذا توفرت له قناة فضائية ذائعة الصيت والانتشار. هذا وحده لا يكفي إن لم تتوفر الرؤية، وإن لم تكن هذه الرؤية نابعة من فكرة فلسفية إنسانية تعي ذاتها بالأساس، وتعي مشروعها، وتدرك حدود مسؤوليتها وهي تطل على الجمهور، لا لتسلّيه، فقط، بل لتحفّزه، ولتضيء شمعة صغيرة في دربه، ولتخرجه من أنانيته، وتحرضه على مشاركة الآخرين عذاباتهم، وتدفعه للمساهمة في التخفيف من وطأة دمعها. لم يعد الأمر لعبة بسيطة، وقدرات جسدية ولغوية. ثمة هندسة الآن في صناعة الإعلام الجديد. ومن كان يراهن على إخفاق البرامج الإعلامية الذكية التي تتوفر على جرعة كبيرة من نوازع التفكير والتنوير والتغيير، فها هي الأدلة، التي من بينها «خواطر» تثبت بطلان رهانه. المهم ألا يتوقف الرهان على الخيرية، والذكاء، وتمكين الشباب والنساء، والرغبة في التغيير. وبإزاء ذلك، بل وفي العمق منه، هناك أناس يحبون الانخراط في فعل شيء يشعرهم بانتسابهم إلى الأسرة الكونية، وهناك من يرغب في دعم جهود الشباب، وإسناد أرواحهم، وتعظيم طموحهم، فلا يجد غير هذه البرامج التحفيزية لتحقيق هذه الغاية. وبالتأكيد أن برنامجاً، صار يشاهده عشرون مليون شخص، ليس وليد الصدفة أو ضربة الحظ، بل هو نتاج العمل والسهر والتعب والمكابدة، والأهم هو قطف الأفكار الذكية التي تستجيب للواقع، ولا تتحامل أو تتعالى عليه. النزول إلى الشارع من عناوين النجاح في البرامج الإعلامية التواصلية، وخلق الشبكات مع الشباب والمنظمات الأهلية والمدنية، والاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي، والإيمان بقدرة هذه الكاميرا وهذا الميكروفون وهذا القلم وهذه المنصة على التغيير. لذلك سنكون، إن رُمنا التميّز، بإزاء مفهوم آخر للإعلام الجديد ينهض على الأنسنة والخيرية وإسناد الفئات المهمشة من فقراء وشباب (ربما تائهين)، والأهم من ذلك نسيان الأنا التي في إطار الكادر المنتشية أمام إشعاع الضوء، والانخراط في أنوات عدة، والأخذ بيد الأفكار لتصبح لها أجنحة تطير وتحلّق. * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :