«صديقتي اليهودية» هو عنوان الرواية التاسعة للكاتب الأردني صبحي فحماوي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). وهو عنوان مثير للفضول لأنه يطرح الصداقة بين مختلفَيْن، دينيًّا وقوميًّا وسياسيًّا، يغلب على العلاقة بينهما الصراع وتقلّ الصداقة، وكأن الكاتب يحاول أن يجعل من العنوان الطعم الذي يصطاد به القارىء، وهي محاولة سبقه إليها، زمنيًّا ونوعيًّا، الكاتب السعودي وليد أسامة خليل في روايته «أحببت يهودية»، بحيث تعدّت العلاقة بين المختلفَيْن الصداقة إلى الحب. فهل تتم ترجمة العنوان في المتن الروائي بحيث لا يندم القارىء على أكله أم أنه يبقى مجرّد طعم في صنارة الكتابة؟ في الشكل، تتألف الرواية من تسع عشرة وحدة سردية، يعنون الكاتب كل وحدة بتاريخ يوم محدّد ما يجعلنا إزاء تسعة عشر يومًا، هي المدة الزمنية التي تحصل فيها الحوادث، بوقائعها والذكريات، وتمتد بين 8/6/1993 و 29/6/1993، والعلاقة بين هذه اليوميات متصلة أو منفصلة، والعلاقة بين الحوادث التي تشتمل عليها خطّية غالبًا يتم كسرها فقط في الوحدتين الثانية والثالثة المخصّصتين لذكريات الراوي فيما تطغى الوقائع على الوحدات السردية الأخرى. وهكذا، يتخذ فحماوي من «اليوميات» المتصلة، المنفصلة، إطارًا سرديًّا لحكايته، على أن محتوى اليومية الواحدة يلتزم بهذه المدة الزمنية على مستوى الوقائع لكنه يخرقها بالتأكيد على مستوى الذكريات، والكاتب يسقط في التضارب بين عنوان اليومية ومتنها في الوحدة السردية الثانية، فيذكر في المتن أن الراوي أمضى ليلتين اثنتين في ووكنج بينما العنوان يشير إلى يوم واحد هو 8/6/1993. في الحكاية، تتناول الرواية رحلة سياحية يقوم بها جمال قاسم، العربي، الراوي، في مجموعة من المدن الأوروبية، ترافقه يائيل، اليهودية المكسيكية، المتحدّرة من أصل ألماني، وتكون بينهما علاقة متنوّعة راحت تنمو بتقدّم الرحلة، وتكون حوارات ونقاط خلاف وتقاطع...، وتكون تحوّلات في الأفكار والمواقف. تبدأ العلاقة بالصمت في مقعدين متجاورين، في حافلة سياحية، تهمّ بالانطلاق من ساحة بيكاديللي وسط لندن لتطوف في سبع دول شمال أوروبا، وتنتهي بالدموع، في نهاية الرواية، عند سلم الطائرة في كوبنهاجن: «كلّ الذي أذكره أن الأفق كان ضبابيًّا، وأن دموعنا الممتزجة على وجهينا الملتصقين، لم تجعلنا نشاهد بعضنا بعضًا...» (ص226). وبين البداية والنهاية، بين الصمت والدموع، ثمة حوارات ووقائع كثيرة امتدت طيلة الرحلة، قرّبت بين الشخصيتين المختلفتين دينيًّا وقوميًّا وسياسيًّا، فتقاطعتا إنسانيٍّا، حتى إذا ما أزفت لحظة الفراق، كان ثمة عناق وقُبَل ودموع، في إشارة روائية واضحة إلى أن العلاقات الإنسانية، هي علاقات عابرة للأديان والقوميات والسياسة. فكيف جرى التقاطع إنسانيًّا بين جمال قاسم، العربي، السائح المغامر، المنحاز إلى قضايا أمته الذي يطوي النفس على حقد دفين على الغرب وممارساته، المتحفّز لتفنيد دعاوى الغربيين واتهاماتهم، من جهة، وبين يائيل آدم، اليهودية المكسيكية من أصل ألماني، المنحازة لإسرائيل، المتحفّظة إزاء الآخر العربي، الطالعة من تجارب عاطفية مريرة، المسكونة بعقدة الاضطهاد وبوعي تاريخي بالظلم الديني، من جهة ثانية؟ في بداية اللقاء بين جمال ويائيل على مقعدين متجاورين، في حافلة واحدة، يبادر جمال إلى كسر جدار الصمت، يستدرج جليسته إلى حوار يستأثر فيه بمعظم الكلام، فيذوب الجليد بينهما، وتخبره عن نفسها وأسرتها وأصولها. وهنا، نحن إزاء نمو سريع للشخصية وسلق للحوادث، فمن غير المنطقي أن تتخلّى يائيل عن تجاهلها إياه وتحفّظها نحوه لتخبره بخصوصياتها، لا سيّما بعد أن عرفت، هي اليهودية، أنه عربي بمجرّد دخوله الحافلة، وبعد أن تلفّظت امرأة غربية باسم صدام حسين، ما يعني أن ثمة صورة نمطية للعربي في الغرب ترادف الإرهاب والاستبداد. مع تقدّم الحوادث، ينجح جمال في كسر هذه الصورة النمطية في ذهن يائيل، من خلال الحوار والتصرّف، وتتطوّر العلاقة بينهما من الجيرة إلى الرفقة إلى الصداقة، ويتخلّلها شراب ورقص وتسكّع وتغدو يائيل جزءًا من حياة جمال السياحية على الأقل. خلال الحوار غير المتكافىء بينهما، تكتفي هي بطرح الأسئلة، ويحتكر هو الإجابة عنها، غير أن امتلاكها حرية تغيير الأسئلة والموضوعات يعيد إلى الحوار شيئًا من التكافؤ. ولعل أهم ما يترتّب على هذا الحوار تحوّلٌ جذري يطرأ على موقف البطلة من إسرائيل، فبعد أن كانت تتمنى في متن الرواية أن يكبر ولداها ويتخرّجا من المدرسة لترسلهما إلى إسرائيل، ترفض، في نهاية الرواية، أن تهجّر ولديها من مكسيكو إلى فلسطين، بقولها: «لقد سئمت غربة البواخر! ولن أبحث لهما بعد اليوم عن غربة جديدة» (ص225). في الحوار بين يائيل وجمال، يتواجه وعيان مختلفان؛ وعي يهودي مسكون بثلاثة آلاف عام من الاضطهاد والتشرّد، يرى في البواخر معتقلات سابحة، وسجونًا متحرّكة، وأماكن للبغاء والاغتصاب والمخدّرات، ووعي عربي مسكون بعقدة الاضطهاد الأوروبي وبالإحساس بالظلم، يرى في البواخر التي تحمل المهاجرين اليهود والمجنّدين إلى فلسطين أحصنة طروادة لاحتلالها. غير أن هذه المواجهة بين الوعيين لا تلتقي عند كره البواخر وحسب، بل تتقاطع في غير محطة إنسانية، ما تعبّر عنه يائيل بالقول: «رغم وجهتَيْ نظرنا غير المتطابقتين في أشياء كثيرة، إلاّ أن عذابات هجراتنا مشتركة». وعلى رغم النتيجة المهمّة التي تمخّض عنها الحوار، المتمثّلة في عدول يائيل عن إرسال ولديها إلى إسرائيل، فإن بعض أجوبة الراوي يسقط في الخطابة والوعظ والأيديولوجيا والمثالية والإنسانية المصطنعة ومجانبة الواقع، وحسبنا أن نذكر قوله: «فنحن العرب نرحّب بكلّ يهودي عربي ضلّلته الدعايات الغربية، ليعود إلى وطنه العربي». على أن الشق السياسي يشغل مساحة ضئيلة من الحوار ليترك المساحة الكبرى للسياحي بما هو مشاهدات ومغامرات. ويطغى المضمون السياحي على النص الذي هو حصيلة أقوال لورا، الدليل السياحي للرحلة، ومشاهدات الراوي، وذكرياته، وهو مضمون يتناول الأمكنة والناس والعادات والتقاليد والفنون، وتتجاور فيه المعلومات التاريخية والجغرافية والأنتروبولوجية والفنية والثقافية والسياسية، وكثيرًا ما يعقد الراوي مقارنات بين العرب والغرب، في هذا الجانب أو ذاك، تنجلي لمصلحة الغرب في الزمن الحاضر، ولمصلحة العرب في الزمن الماضي. وعلى رغم البعد السياسي الذي يشي به العنوان، وينتظم جزءًا من الرواية، فإن «صديقتي اليهودية» نصٌّ سياحي بامتياز في إطار روائي، يتخذ مسارًا أفقيًّا، يفتقر إلى الحبكة، تتعاقب الحوادث فيه من دون تعقيد، فيشكّل الروائي قشرة خارجية للسياحي ولأدب الرحلة، ولا تستطيع البنية البسيطة المتمثلة في الحوار بين الراوي وصديقته أن تعمّق روائية النص، والأمر نفسه ينطبق على تقنية اليوميات المستخدمة في العناوين. وبعد، «صديقتي اليهودية» ليس مجرّد طعم للإيقاع بالقارىء، بل إطار روائي لنص سياحي غني بالمعلومات على أنواعها، ما يجعل الوقوع في حبائله رحلة مفيدة.
مشاركة :