الشارقة:علاء الدين محمود يحمل الشعر الصوفي كل معاني الإيمان الصادق الذي ينهض على الزهد الحقيقي، والعبادة الخالصة لله تعالى من دون تكلف أو رياء أو نفاق، وتلك هي الأهداف التى وضعها المتصوفة نصب أعينهم، فساروا في طريق المحبة وعملوا على مراقبة أنفسهم في كل صغيرة وكبيرة، فتأدبوا بأدب الإسلام ونهلوا من معين قيمه وأخلاقه، فالرحلة الطويلة إلى الله تعالى تطلب زاداً، ولا زاد غير الإيمان والتقوى ونهي النفس عن الهوى، فكانت أشعارهم تعبر عن كل تلك الأحوال والمقامات، ثم إنها كانت الوسيلة في النجوى والتضرع في خلواتهم وسفرهم الدائم وسياحتهم المستمرة، لا يحملون غير محبة الله تعالى، يرجون رحمته وقربه، فصفت قلوبهم ورقت أشعارهم.ومن الشعراء الصوفيين الذين ساروا في طريق المحبة، محمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف بن أحمد، شهاب الدين، أبو عبد الله الأنصاري، المشهور بابن الخيمي، «602 685 ه»، وهو يمني الأصل والمولد، لكنه نشأ وعاش ومات في مصر، عالم في السنة والتصوف واللغة، وعلى الرغم من أن ابن الخيمي يمتلك الكثير من الأشعار الصوفية البديعة، فإنه لم ينصف من قبل المؤرخين والأكاديميين الذين اشتغلوا على شعر التصوف، فقد كانت له صولات وجولات مع الشعر العذب الرقيق، فهو أنيق العبارة والمفردة، يأتي نظمه مرسلاً طلقاً فيعلق في القلوب لصدقه وجماله، حتى أن بعض المراجع القديمة التي تناولت شعره وسيرته مثل: «تاريخ الإسلام»، والوافي بالوفيات، ونهاية الأرب في فنون الأدب، وغيرها من المراجع، قد ذكرت أنه كان من المقدمين في شعر التصوف، فيما رأت بعض الدراسات الحديثة أن أسلوبه قد امتاز بالجزالة في زمن تراجع فيه الشعر وأنحدر.كان ابن الخيمي تلميذاً لشاعر الصوفية الأكبر ابن الفارض؛ بل ويعد الابن الروحي له، تأثر به وبطريقة نظمه، وكان ابن الفارض يثق فيه وفي شعره وأشاد به؛ بل وكان يعرض عليه أشعاره ليعرف رأيه فيها، وعامله معاملة الابن لابنه، وقد استفاد ابن الخيمي من صحبة ابن الفارض؛ فطور من أدواته وموهبته الشعرية، حتى أصبح من كبار شعراء القرن السابع الهجري، وله ديوان شعر، يجمع بين قصائد الغزل، والحب الصوفي، وذهب الذين درسوا شعره وسيرته من المؤرخين والكتّاب إلى أنه كان شيخاً فاضلاً إماماً في اللغة وراوية للشعر والأدب؛ حيث قال عنه ابن النجار: هو شيخ فاضل كامل المعرفة بالأدب، يقول الشعر الجيد، ويكتب خطاً حسناً صحيحاً، له مصنفات كثيرة، وهو حسن الطريقة طيب الأخلاق و متواضع.منازعة ولقصيدة «يا مطلبا ليس لي في غيره أرب»، قصة طريفة، فقد أعجب بها العديد من شعراء ذلك العصر، حتى أن أحدهم وهو نجم الدين بن محمد، قد نسبها لنفسه وأدعى أنه هو من قام بتأليفها وليس ابن الخيمي، وأثار ذلك الأمر لغطاً كبيراً، حتى أن كلاً من الشاعرين؛ ابن الخيمي ونجم الدين، احتكما إلى ابن الفارض، في مجلس كبير جمع عدداً من الشعراء والأدباء، فطلب ابن الفارض من كل واحد منهما نظم شعر على ذات منوال القصيدة، فنظم ابن الخيمي قصيدة يقول في بدايتها: لله قوم بجرعاء الحمى غيب جنوا علي ولما أن جنوا عتب ونظم نجم الدين، شعراً يقول مطلعه: لم يقض من حبكم بعض الذي يجب قلبٌ متى ما جرى تذكاركم يجب. فلما عرضا عليه ما كتبا من شعر، حكم ابن الفارض لصالح ابن الخيمي؛ وذلك بعد تأمل في الأبيات، وغضب نجم الدين من الحكم وغادر من فوره مصر وتوجه إلى الشام.رقة وعذوبة تعد القصيدة من عيون الشعر العربي والصوفي، فقد أجمع المؤرخون على جودتها، وتحمل العديد من الأبيات العذبة التي تفيض رقة، وهي قصيدة طويلة حول نذر الشاعر لنفسه في طريق المحبة، وتفرغه الكامل للسير في طريق الله تعالى؛ وذلك شأن السالكين المحبين، يقول مطلعها: يا مطلباً ليس لي في غيره أرب إليك آل التقصي وانتهى الطلبوما طمحت لمرأى أو لمستمعٍ إلا لمعنىً إلى علياك ينتسبوما أراني أهلاً أن تواصلني حسبي علواً بأني فيك مكتئبلكن ينازع شوقي تارةً أدبي فأطلب الوصل لما يضعف الأدبولست أبرح في الحالين ذا قلقٍ نامٍ وشوقٍ له في أضلعي لهبومدمعٍ كلما كفكفت أدمعه صوناً لذكرك يعصيني وينسكبويدعي في الهوى دمعي مقاسمتي وجدي وحزني فيجري وهو مختضبكالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا يزال في ليله للنجم يرتقب هي أبيات تحمل بين حوافها ومتونها المعاني البديعة والأنوار اللطيفة، حافلة بالصور والمشاهد لما يجيش في صدر الشاعر من الشوق والوجد فتخاطب القلوب مباشرة؛ لسلاستها وجزالتها وقوة معانيها، وتحمل القصيدة إشراقات وأنوار من الحب الصوفي، فقد كان ابن الخيمي أحد الذين ساروا في طريق المحبة الصوفية، فجاء شعره وهو يحمل تلك المعاني بلا شطط ولا شطح؛ بل التزم بأدب الإسلام، فكل بيت من أبيات القصيدة حالة قائمة بذاتها.عاش ابن الخيمي حياة العابد الناسك المتبتل، فكانت أشعاره وقصائده وسيلته للتقرب إلى الله تعالى حتى توفي بالقاهرة، وقال ابن خلكان عن يوم وفاته: ودفن بالقرافة الصغرى، وحضرت الصلاة عليه، وكان إماماً باللغة، راوية للشعر والأدب، وكانت وفاته أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب.
مشاركة :