علمتُ، كما نشرت وكالة "عمون" الإخباريّة، أنّ اجتماعاً التأم، اليوم، في نقابة الصحفيّين الأردنيّين لبحث أوضاع الصحف الورقيّة وأزماتها الماليّة. ولا أعلم إلى ماذا أفضى الاجتماع، لكنّني أضع أمام الزملاء الصحفيين، وأعضاء مجلس النقابة، وإدارات الصحف، هذه التصوّرات والأفكار، علّها تجدي في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وحماية الزميلات والزملاء في الصحف الورقيّة، وصيانة حقوقهم.أولاً: أعتقد جازماً أنّ الإصرار على بقاء الصحف بصيغتها الورقيّة هو تجذيف ضد التيار. علينا أن نعترف أنّ المستقبل هو للإعلام الرقميّ.ثانياً: بناءً على النقطة الأولى، علينا أن نفكّر خارج الصندوق، ونبدأ بالتحوّل إلى الإعلام الرقميّ، واستلهام تجارب صحف عربيّة سلكت هذا الدرب، وحافظت على بقائها، وجعلت سفنها تسير مع التيار، ونجحت في تطويع العاصفة.ثالثاً: من الأمثلة البارزة في سياق التحوّل "الإكراهي" من الصحافة الورقيّة إلى الرقميّة ما جرى مع صحيفة "النّهار" اللبنانية، التي اضطرت قبل ثلاث سنوات إلى وقف نسختها الورقيّة، وأعلنت حجب معظم مواضيعها وتقاريرها الخاصّة عن قرّاء موقعها الإلكترونيّ، لتصبح هذه الخدمة مدفوعة مسبقاً، وبذلك سيكون على قرّاء "النهار" إذا إرادوا استمرار الصحيفة في أداء وظيفتها أن يساهموا في دفع 6 دولارات أمريكيّة شهريّاً، وهو مبلغ زهيد يزيد عن ذلك الذي كان يُدفع لشراء ثلاثين عدداً من الجريدة الورقيّة كلَّ شهر.رابعاً: يجب أن نختبر ولاء القرّاء لصحفنا، فــ"الدستور" و"الرأي" يناهز عمر كل واحدة منهما نصف قرن تقريباً، وهما جزء أساسي من تراث الأردن وذاكرته. فإذا كان قرّاؤهما حريصين على بقائهما، فلن تهزّ ميزانيتهم الشهريّة خمسة دنانير مثلاً. ولعل الأمر يتعدّى صحيفة بعينها ليصبح اختباراً للولاء بذاته؛ بوصفه فعلاً أخلاقيّاً يوثّق علاقة ما بين طرفين، وكلما كان الوثاق متيناً كان الفعل الأخلاقي حقيقيّاً وأصيلاً ومبنيّاً على ثقة وإيمان.خامساً: ربما يكون الاختبار المذكور محفوفاً بالمخاطر، لاسيما أنّ فضاء الميديا مليء بالخيارات والبدائل. فالمتصفّح إن لم يجد ما يزوّده بالأخبار في هذا الموقع، يلجأ برمشة عين إلى سواه، وليس مضطرّاً، بالتالي، ليدفع أي دينار، وهذا يقتضي الامتثال لقواعد النشر الإلكترونيّ وتقنياته وتطبيقاته على الهواتف الذكيّة، والخدمات التي تتفرّع عن الأخبار العاجلة والسريعة وأفلام الفيديو والمواد الصحفية المقدّمة برشاقة وإبداع عبر المنصّات المتعدّدة.سادساً: لا ريب في أنّ التحوّل الرقميّ سيجنّب الصحف الورقية الكثير من الخسائر الآتية من نفقات الطباعة والتوزيع ودفع أجرة المقرّات والكهرباء والماء، وسوى ذلك من شؤون خدماتية ولوجستية. وفي التفاصيل، قد تلجأ كل صحيفة إلى تشكيل منابر إلكترونيّة خاصّة (مستقلة في الإطار العام) يُعنى بعضها بالسياسة أو الاقتصاد أو الرياضة أو المرأة و"اللايف ستايل"، وسوى ذلك، وهذا يحرّك عجلة الإعلان الرقميّ، ويجعل كل منصّة تغطّي وترفد المنصّات الأخرى.سابعاً: العامَ الماضي، هوجم وزير الاقتصاد الرقميّ والريادة مثنى الغرايبة، عندما قال إنّ الحكومة تدرس فرض ضريبة مبيعات بحسب القانون على إعلانات "فيسبوك" و"غوغل"، مشيراً الى أنّ هذه الشركات تستفيد من البنية التحتيّة للإنترنت في المملكة والتي استثمرت فيها الشركات مئات الملايين دون مقابل. لكنّ هذا الأمر، في نظري، لا يعدّ اعتداءً على حرية التعبير، إذا صيغ اقتراح الغرايبة، بحيث تذهب الضريبة لمصلحة الصحف ذات المحتوى الرقميّ، وتبنته نقابة الصحفيين مثلاً، أو ائتلاف الصحف الورقيّة إن وجد، مع أنني أفضّل نقابة الصحفيين كمظلة، على أن يتمثل الاقتراح في سنّ قانون يلزم "فيسبوك"و"غوغل" باقتسام عائداتهما من الإعلانات مع منابر الإعلام المحليّة التي يتغذى "فيسبوك"وغوغل" على ما تنتجه من محتوى إخباري، وهذا أمر مطروح عالمياً، أسوة بتعامل "غوغل" مثلاً مع ناشري الموسيقى.وفي هذا السياق، وجّهت سلطات مكافحة الاحتكار الفرنسية، الشهرَ الماضي، شركة "الفابت" المالكة لمحرك "غوغل" بالتفاوض مع الناشرين للدفع مقابل المحتوى الإخباريّ المعروض في نتائج البحث، فضلاً عن أنّ "فيسبوك" و"غوغل" "لا يوظفان صحفيين ولا يتعّقبان السجلات العامة للكشف عن الفساد، ولا يقومان بإرسال المراسلين إلى مناطق الحرب. إنهما يتوقعان أن يقوم صناع الأخبار، الذين يتعرّضون للضغوط الاقتصاديّة، أن يقوموا بذلك العمل المكلف بدلاً عنهما"، بحسب مقال نشرته "وول ستريت جورنال"، كتبه ديفيد تشافيرن، الرئيس والمدير التنفيذي لتحالف وسائل الإعلام الإخباريّة الذي يمثل نحو 2000 ناشر إخباريّ في الولايات المتحدة وكندا.ثامناً: لا يعني التحوّل إلى الإعلام الرقميّ إعداماً للصحافة الورقيّة، وإنما هو تطوير للمحتوى الإخباريّ بما يترافق مع إيقاع العصر، وعلى الحكومة ووزير إعلامها المثابر أمجد العضايلة أن تدفع باتجاه سنّ تشريعات تحمي الإعلام، وتلزم المؤسسات الحكوميّة والخاصّة بالإعلان فيه كجزء من المسؤوليّة الاجتماعيّة.. والأخلاقيّة أيضاً.
مشاركة :