حاولت أن أصل إلى سبب تسمية مؤشرات الساعة بالعقارب ولكن لم افلح بالحصول على إجابة مقنعة غير التي تفيد بأن السبب هو إن الوقت يمضي بسرعة فائقة كالعقارب التي تلسع، وبالتالي يجب أن تنتبه إليها في إشارة لضرورة مراقبة الوقت واستثماره. كما أن هناك من يعتقد بأن التسمية لربما تعود إلى أن أوائل الساعات الحديثة التي وصلت للعامة من الناس في منطقتنا العربية كانت مؤشراتها على صورة عقارب تقفز من رقم إلى آخر فتمت التسمية بذلك. ويعتقد نفر آخر بأن هناك علاقة بين التسمية الفرنسية لمؤشرات أرقام الوقت التي تسمى ب "الإبرة" بشوكة العقرب التي في ذيله، فكان هناك استدلال تشبيهي بين المفردتين. هذه الإجابات وغيرها لم تقنعني بسبب التسمية، لذلك حاولت أن ابحث عن اصل هذه التسمية ولكن للأسف لم أفلح أيضا. بعدها حاولت أن أصل إلى أقدم المؤلفات الإسلامية الخاصة باختراعات أدوات الوقت فوصلت إلى مجموعة من المؤلفات أقدمها "المزولة الشمسية" لثابت بن قره المتوفى عام 901، ثم كتاب جامع في الساعات الشمسية لإبراهيم بن سنان المتوفى عام 976، وغيرهم إلا أن لم يكن بينهم من أشار إلى عقارب الساعة. وحتى كتاب " الكواكب الدرية في وضع البنكمات الدورية" ل تقي الدين محمد بن معروف الشامي (1526- 1586) والذي ألفه ما بين عامي1556-1559، والذي يعتبر أول مؤلف إسلامي يتم فيه اختراع ثلاث مؤشرات واحدة للساعات والثانية للدقائق والثالثة للثواني لم تستخدم مفردة عقرب الساعة. عاودت البحث عن معنى لكلمة عقرب آملا أن أصل إلى مقصدي فوجدت معان كثيرة بخلاف الإشارة للمخلوق السام، ومن أهم تلك المعان هي الشدائد حين يقال عن المرء نزلت به العقارب يعنى بذلك وقعت به الشدائد، والمعنى الأهم هو النمائم والوشايات حين يقال عن القوم كثرت بينهم العقارب أي كثرت بينهم الوشايات والنمائم. الآن، وبعد ذلك الجهد المتواضع لم أتوصل للعلاقة التي تربط التسمية بهذه المعان لمفردة عقرب، إلا أن نظري وعقلي قد اشتد إليها من حيث وجود دلالة لارتباط فكري بين تلك المعان لكلمة العقرب مع أداة قياس الزمن وهي الساعة. وبعد برهة من التأمل وجدت إنه بالإمكان عقد وصلة فكرية بين التسمية " عقارب" بالأداة وهي "الساعة" التي تقيس الوقت، وأيضا بالمعنى الأخير لكلمة عقرب وهي "الوشاية". هي بالفعل كذلك "عقارب الساعة وشاية" تصلح لأن تكون حكمة لمن يريد أن يحتكم. إن عقارب الساعة تشير ليس إلى مضي الوقت فحسب وإنما إلى دورانه أي تقلباته، فإن أحسنت أيها الإنسان التدبر واتخذت الحذر من مضي وقت عقاربه في صناعة الوشاية وبث النميمة فإنك دون شك في خسران مبين. الوقت يمضي علينا وهو في حالة تداول بين الناس، وفي حال التداول تمضي معك عقارب الزمن لكي تطيح بك في مقتل إن لم تعمل بأمره تعالى بالعدل والإحسان. إن الأزمة الحقيقية التي يعيشها الإنسان وبوجه خاص ممن له سلطة ونفوذ تتلخص في سيطرته على عقارب الزمن أو تركه لها كي تسيطر عليه. إن سيطر الإنسان على عقارب الوقت وبسط نفوذه على دورانها وتقلباتها فهو سيكون في خير، وإن لم يكن له ذلك فإن عاقبته دون شك في شر. لقد أفرد القرآن الكريم آيات كثيرة عن الوقت فخص منها الفجر والصبح والضحى والعصر والمغرب والليل والنهار والأيام والأشهر والسنين والقرون والبروج والشمس والقمر والدهر والساعة وغيرها وربط بينها وبين صيرورة هذا الإنسان الذي تحيط به عقارب الجن والإنس وتبث من حوله سمومها وتحيطه بشدائدها وتوقعه في شراك نميمتها وشباك وشايتها. كل تلك الآيات التي وردت فيها مفردات الوقت لحقها تذكير بتقلب الزمان والتحذير من عقاربه التي توقع الإنسان في خطاياه حتى تحين ساعته... تلك الساعة التي هي آتية لا ريب فيها. لقد لخص الإمام علي في بعض حكمه تلك الفلسفة المتكاملة بشأن العلاقة ما بين الإنسان والزمن ومنها حينما قال عليه السلام":َيأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُقَرَّبُ فِيهِ إِلاَّ الْمَاحِلُ وَلاَ يُظَرَّفُ فِيهِ إِلاَّ الْفَاجِرُ وَلاَ يُضَعَّفُ فِيهِ إِلاَّ الْمُنْصِفُ" والماحل هو الحيًّال الماكر، ومن المعروف إن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. وصدق عليه السلام حينما قال أيضا: "إذا تغير السلطان تغير الزمان"، أي أن الذي يهيمن على الزمان هو الإنسان حيث أنه هو الصانع لأحداثه وإحداثياته، فإن صلح ودفع بالعدل والإحسان كان عاقبة أموره خيرا والعكس بالعكس صحيح حيث تنتشر عقارب الزمن على مدار الساعات فتصيبه في مقتل. د عبدالله سهر
مشاركة :