كان يُمكن لإعلان لشركة طيران مُنخفضة التكاليف عن أولى رحلة لها في شهر مايو الجاري بـ 99 سنتا، أي أقل من دولار واحد، أن يقلب الدنيا رأسا على عقب، وبالتأكيد لن تجد مقعدا فارغا بعد دقائق، لولا أن العالم تغير بعد جائحة كورونا، وما يقرب 16 ألف طائرة جاثمة على مدرجاتها، والمطارات خاوية، وشوارع المدن الصاخبة التي لا تعرف السكون هُجرت، والمتاحف التي كانت تكتظ بعشاقها دون زوار ومغلقة، والمقاهي لا تفوح منها رائحة القهوة، ولا تتسرب منها رائحة النبيذ المُعتق. ما كان ممكن أن أفوت وآخرون مثلي، رحلات إلى مدن أوروبية كثيرة أشتاق لها بـ 16 يورو أعلنت عنها شركة طيران مرموقة ومعروفة بأسعارها الرخيصة، ولكنني أعيش منذ منتصف مارس الماضي حالة من الفزع والخوف، بعد أن أصبحت العدوى بفيروس كورونا كابوسا مُرعبا يُباعد بين البشر، وقسرا لا اختيارا يجعل من فكرة السفر كلها انتحارا محتوما في ظل حالة الطوارئ، والظروف الصحية الاستثنائية. لم يُهدد فيروس كورونا صحة الناس فقط؛ بل ضرب في الصميم سلوكهم وقيمهم، وأبعدهم عن أشياء، وملذات، وممارسات كانوا يحبونها ويعتادون القيام بها، فأصبحت الآن خطرا، وتناسوها، أو صارت مؤجلة على الأقل إلى إشعار آخر. الدمار الذي خلفه "إعصار كورونا" كان أول ضحاياه قطاع "السياحة والسفر"، فكل المؤشرات والدراسات تُرجح ألا يتعافى هذا القطاع تماما قبل عام 2023، فالمشكلة ليس بتوقف تفشي الوباء فحسب، وإنما بتوقف حالة الخوف التي سكنت الناس، والتجرؤ على أفعال يعتقدون أنها قد تكون سببا للعدوى، وربما يكون في مقدمتها السفر، وما يصحبه من تفاصيل كثيرة جدا. فكرة السفر كلها أصبحت انتحارا محتوما بعد حالة الطوارئ والظروف الصحية الاستثنائية رئيس البحوث بقسم السياحة والضيافة بجامعة برونموث بالمملكة المتحدة آدم بليك يختصر الأزمة بالقول "يحتاج المسافرون إلى أكثر من مجرد إقناعهم أن السفر آمن، يحتاجون إلى رؤية متغيرات ملموسة وفعلية تحدث لجعل السفر أكثر أمانا". حين سمعت تقرير معهد أبحاث "Simpliflying" عن إجراءات وتدابير السفر بعد "وباء كورونا" أصابني الهلع، وسيدفعني الوضع للتفكير مئة مرة قبل أن أتخذ قرارا بالذهاب إلى مطار، وركوب الطائرة. ما سيحدث أكثر مدعاة للقلق من كل الإجراءات الأمنية التي تعاظمت بعد العديد من العمليات الإرهابية، فالمطلوب من كل مسافر حسب التقرير، جواز سفر مناعي مثل بطاقة الحمى الصفراء التي كانت شرطا للسفر إلى المناطق الاستوائية، ثم سيكون عليك التسجيل عبر الإنترنت من خلال مواقع شركات الطيران، وسيُصبح مطلوبا منك أن تتواجد بالمطار قبل 4 ساعات على الأقل، وستخضع لتشخيص صحي أولي على باب المطار، وعليك أن تُظهر جواز سفرك المناعي، وأن تتعرض لتعقيم، وماسحات حرارية، وكل هذه الإجراءات والمعايير ستضعها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع منظمة الطيران المدني، والاتحاد الدولي للنقل الجوي"IATA"، وقد تُضيف بعض الدول فحصا للدم. الطواقم الأمنية واللوجستية في المطارات ستخدمك من خلف حواجز واقية تُقلل التقارب والتلامس المباشر، والأمتعة ستوضع في أكياس خاصة، وستُعقم بالأشعة فوق البنفسجية، وحقائب اليد ستُغلف، والكاميرات في المطارات ستحتاج إلى تحديث وتطوير حتى تتعرف على وجوه المسافرين الذين سيضعون الكمامات طوال الوقت، وفي الطائرة لن تحظى بوجبات طعام ساخنة، بل مُغلفة ومُجهزة سلفا، والمُضيفات والمُضيفين ستختفي ملامح وجوههم المُبتسمة خلف الكمامات، وسينتهي زمن المجلات على الطائرات وكل التعاملات النقدية. هذا التصور لقادم الأيام ليس من أفلام الخيال، ولا أدري إن كان معهد الأبحاث يُبالغ في مخاوفه، وأسأل بعد كل هذه المعلومات، هل هذه رحلة سفر للسياحة والمتعة، أو العمل، أم أنها تذكرة نحو الشقاء؟ جواز سفر مناعي لكل مسافر وتعقيم بالأشعة فوق البنفسجية ووجبات طعام مُعلبة ومُعدة سلفا منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة استشعرت هذه المخاطر والمخاوف، وطالبت "أن تكون مواجهة قطاع السياحة لهذا المرض مُتزنة، ومُتناسقة، ومُتناسبة مع التهديد الماثل أمام الصحة العمومية، وبالاستناد إلى تقييم محلي للمخاطر، الأمر الذي يشمل كل حلقة من سلسلة القيم السياحية". وحذرت بوضوح "من أن القيود التي تتجاوز الحدود من شأنها أن تؤدي إلى تدخل لا لزوم به في حركة المرور الدولية، مع ما يُصاحب ذلك من تداعيات سلبية على قطاع السياحة". منظمة السياحة العالمية ترى أن السياحة أحد القطاعات الاقتصادية الرائدة في العالم، ومحرك رئيسي للتنمية المستدامة، وهي تُقدم سُبل العيش لملايين البشر في العالم. الانهيارات في قطاع السياحة والسفر تفوق التوقعات، وأثارها كارثية على المُشتغلين والمُشغلين لهذا القطاع، وعلى اقتصاديات الدول عموما، فمنظمة السياحة العالمية تتوقع أن تصل خسائر العائدات السياحية ما بين 30 إلى 50 مليار دولار، في حين ستتراجع السياحة بما يُقارب 30 بالمئة، وستنخفض عائدات السياحة 300 مليار وقد تصل حتى 450 مليار دولار. رئيسة مجلس السياحة والسفر العالمي غلوريا غيفارا تؤكد "أن انتشار فيروس كورونا سيترك تأثيرا اقتصاديا طويل الأمد على السياحة والسفر"، وترى "أن إغلاق المطارات، وإلغاء الرحلات الجوية، وإغلاق الحدود غالبا ما يكون لها تأثيرات اقتصادية أكبر من تأثير الوباء نفسه، فاحتواء الذعر غير الضروري بأهمية وقف الفيروس نفسه". كل بقاع العالم لم تعد مُحصنة من تداعيات فيروس كورونا، وكل الأماكن السياحية الجميلة التي استقطبت ملايين البشر أصبحت خاوية، فبرج إيفل اختفت الطوابير ولا يقف أمامه أحد حتى يصعد إليه، ومتحف اللوفر أغلق أبوابه أمام زائريه، و"يونيفريسال ستوديو" أهم مدن الترفيه في العالم خاوية لا تُسمع فيها صيحات الأطفال والكبار ابتهاجا، وجزيرة بالي التي تعج بالحياة خلت شواطئها من السياح، ولكل ذلك يعتقد رئيس جمعية وكلاء السياحة والسفر في الأردن محمد سميح أن تتعرض شركات طيران كبرى، وفنادق، وشركات نقل سياحي للإفلاس بعد أن تنتهي الأزمة. صناعة السياحة تُشكل ركيزة أساسية في اقتصاديات البلدان، هذا الكلام ليس مُبالغة؛ ففي تركيا بلغت إيرادات السياحة 30 مليار دولار عام 2018، وزارها 52 مليون سائحا عام 2019، ويُسهم قطاع السياحة بـ 12.1 بالمئة من الناتج الإجمالي التركي، وفي مصر حقق قطاع السياحة إيرادات تُقدر بـ 12.6 مليار دولار عام 2018 ـ 2019، واللافت أن 150 مليون صيني سافروا للخارج عام 2018 أنفقوا وحدهم 227 مليار دولار، هذه الأرقام جزء بسيط من واقع حركة السياحة في العالم، وتداعيات انهيارها مؤلمة وصعبة على المجتمعات المحلية، والإقليمية، والدولية. قطاع السياحة لن يتعافى قبل 2023 وعائداته ستنخفض 450 مليار دولار المنظمة العربية للسياحة تُقدر خسائر السياحة في العالم العربي بما يُقارب 15 مليار دولار بسبب فيروس كورونا، وتتوقع أن يتعرض هذا القطاع لضربة موجعة ستزيد من الاضطرابات والأزمات الاقتصادية بعد أن استثمر به في السنوات الماضية في الفنادق، والمنتجعات، والمطاعم، وأماكن التسلية بحدود 300 مليار دولار. في العالم يدور نقاش موسع عن صورة ومستقبل السياحة والسفر، ويطرحون أسئلة عن التغييرات العاصفة التي سيشهدها هذا القطاع، وعن أشكال التكيف التي ستخضع لها. السيناريوهات المُفترضة كثيرة، منها أن يتغير نظام مقاعد الطائرات لتُصبح متباعدة وليس متلاصقة، والكازينوهات يناقشون تعقيم حجار النرد، ووضع كراسٍ أقل على الطاولات. وفي الرحلات السياحية البحرية "الكروز" يبحثون في إلغاء "بوفيهات الطعام"، وزيادة الاهتمام بالنظافة والتعقيم، ولكن يبقى السؤال هل يكفي لطمأنة الناس وسلامتهم؟ دبي بدأت بالسياحة الافتراضية بالاستعانة بتقنيات إلكترونية تُتيح تقديم تجارب سياحية وترفيهية تُلبي رغابتهم حتى تكون على أجندة رحلاتهم المستقبلية. هيئة الثقافة والفنون وبالتعاون مع دبي 360، أتاحت للجمهور مشاهدة المتاحف والمواقع التراثية، والتجول فيها عبر الفضاء الإلكتروني بعد أن أغلقت أبوابها أمام الجمهور بسبب جائحة كورونا. مهما حدث من رعب لن يتوقف العالم عن السياحة والسفر ولو بعد حين، وسينسون مع مرور الأيام آلامهم، ومخاوفهم التي خلقها فيروس كورونا، وسيعودون إلى مقاهيهم، ومدنهم التي يحبون؛ ليُعيدوا إلى شوارعها وأزقتها الحياة التي ماتت، وسيُسمع صوت أنخاب وهمسات العشاق بعد أن ذوت واختفت وسط أخبار الموتى الذين ضاقت بهم الأرض مُسطرة مأساة جديدة لن تنساها البشرية اسمها "كورونا".
مشاركة :