التقيته في الإمارات وفي البحرين وفي الكويت وفي نابلس وفي دمشق وفي عمّان، عشته بكامل إيمانه وتعاطفه، بقسوته ورحمته وكرمه. مارست شعائره وطقوسه وسمعت صوت المسحراتي في شوارع الشارقة وحواري الشام وجبال عمان وأزقة نابلس القديمة، للغربة في رمضان طقوس خير. إن كنت عازباً أو بدون أهلك، فثمة أهل لك يصرون على أن تفطر معهم، وإن كنت خجولاً فحصتك لك. يدق جرس الباب، وما إن تصل وتفتح فلا تجد أحداً. فقط طبق كبير عليه فطورك مما لذ وطاب، مما مشى على أربع ومما طار. في الكويت، كان آل المرزوق، وعميدهم المرحوم خالد المرزوق، يصرون على أن تضم مائدة إفطارهم كافة المغتربين ممن يعملون معهم، وكنا في الأنباء أهل، عرب من مختلف الجنسيات، لا فرق بين عربي وعربي إلا بالانتماءة للعروبة، وبما يقدم للعرب من جهد ومال ومهنية. وفي الإمارات، في جريدة الخليج، كان المرحومان تريم وعبد الله عمران، يطمئنان على إفطار الصحافيين قبل إفطارهم، والمساء يحلو بالعمل الراقي وبالحلوى من كل الأصناف.. العربية. البحرينيون أهل الغريب، في غير رمضان، فما بالك في رمضان؟ كنا في جريدة الوقت محظوظين بإبراهيم بشمي رئيس هيئة التحرير، الفنان الذواق للكلمات والمأكولات، يعرف تاريخ الطبخات والحلويات، كما يعرف منحنيات التاريخ العربي التي في أغلبها مرة. يحب تقديم الطعام بيديه، حتى إنه يشعرك كما لو أنك طفل، يفتح شهيتك على الطعام وعلى الكلام المباح وغير المباح. وكانت خولة مطر دكتورة سوسيولوجيا الإعلام لا تحب الأكل، لكنها تعشق من يأكلون بعد الفقراء لا قبلهم. في الشام، حيث كنا في جامعتها، كان العرقسوس سيد العصائر، والماء من الفيجة، الشوارع تذبل قبل الإفطار، والأطفال ينشطون أمام البيوت ببراءة الصيام، وفي المساء يفوح الياسمين من أفواه الصائمين. أما عمان ونابلس والقدس، فلها حكايات لا تزال تُعاش. رمضان كان يوحد الناس، يملأ قلوبهم بالحب لا أمعاءهم بالطعام. للمساءات نكهتها وأراجيلها وحكاياها، وللسحور أيضاً طقوسه وبركته. سمعت عن ذاك المسيحي الفلسطيني الذي تولى مهمة المسحراتي لإخوانه المسلمين في عكا. ميشيل أيوب يواظب كل ليلة على القيام بدور المسحراتي في بلدته جديدة المكر بقضاء عكا. أيوب (37 عاماً)، يرتدي زياً فلسطينياً فلكلورياً، تلفزيوني معه أقوم بدور المسحراتي احتراماً للصوم والصائمين، ومساهمة في تعزيز اللحمة الوطنية. ميشيل الذي يعمل من أجل لقمة عيشه في البناء والترميمات، يستهل جولته قبل الفجر، مهرولاً مع طبله، يتغنى بأناشيد رقيقة ألف بعضها.. وحفظ آخر من الفضائيات العربية. يزين جدران منزله بأعمال فنية من صنع يديه، لا يكتفي بوضع أناشيد دينية رقيقة، بل يضمنها معاني تربوية. يقول إنه يرى نفسه حامل رسالة تربوية اجتماعية، مفادها أن المسلمين والمسيحيين إخوة وأبناء شعب واحد، ويقيمون في وطن واحد. عندما ينشد أيوب أناشيد السحور، تطرب الآذان لسماعه وهو يقرع طبلته التراثية التي يحبها. يقول متودداً إن الطبلة تحكي معي، أسألها فتجيب بصوتها الرنان الحنون. وفي ساعة مبكرة من ليلة القدر، يستعد لجولات استثنائية داخل أحياء بلدته، يتلو أسماء الله الحسنى. بدأ مشوار ميشيل مع هذه العادة قبل تسع سنوات، لكنه كان مسكوناً بهاجس المسحراتي منذ طفولته، معتبراً أن المسحراتي واحد من الوجوه الجميلة للشهر الفضيل. يقول: طالما سألت نفسي، لماذا وأين اختفى المسحراتي، ولماذا سارع المسلمون لاستبداله بالمنبهات الإلكترونية، إلى أن بادرت للمساهمة في إحياء هذا الموروث الجميل. ويرفض أيوب الظهور بدعايات تجارية، ويشدد على أنه لا ينتظر مكافأة من أحد سوى من رب العالمين. ويؤكد ميشيل اعتزازه بتعاضده مع جيرانه وأهالي بلدته من المسلمين، منوهاً بشعوره وكأنه موكل روحانياً بهذه المهمة، مضيفاً بنبرة سعيدة طالما كنا متحابين، وأنا فخور بانتمائي لبلدة تمتاز بتعاضد كل أهلها. هل سمع الدواعش والطواحش والظلاميون بالمسحراتي المسيحي ميشيل، أم أنهم أفتوا بعدم جواز الصيام على طبله وأناشيده وتجسيده للوحدة الوطنية العربية؟!
مشاركة :