في الآونة الأخيرة، صدر عن «مؤسسة الفكر العربي» كتابان لا يختلفان في سياقيهما، وإن حملا عنوانين مختلفين، فالأول «نهاية الزعامة الأمريكية.. أوضاع العالم 2020»، يتضمن دراسات حول الهيمنة الأمريكية، وقوتها، وعلاقتها بالدول، وتجليات الأزمات الراهنة التي تطغو على المناخ الدولي العام، معيدةً تزويع الأدوار والفرص، فيما يتناول الكتاب الثاني «انزياح المركزية الغربية؛ نقد الحداثة لدى مثقفي ما بعد الكولونيالية الصينيين والعرب والهنود»، وفيه يقدم المؤلف قراءة للانزياح الجاري للمركزية الغربية، من خلال تتبع عمليات انتقال المثقفين الهنود، والعرب، والصينيين، من عوالمهم الأصل إلى الغرب، والكشف عن منطق المسارات الفكرية العالمية وأشكال نقد الغرب المتمثلة لدى هؤلاء المثقفين. نهاية الزعامة يبدو أن وصف العصر بـ«عصر السرعة» لا ينطبق على الفضاءات الافتراضية ومؤثراتها فحسب، بل يشمل كذلك بعض التغيرات الواقعية التي تبيّنها الدراسات التي أشرف عليها أستاذ العلاقات الدولية في المعهد العالي للعلوم السياسية بباريس (برتران بادي)، والمؤرخ الفرنسي (دومينيك فيدال)، إذ تؤكد هذه الدراسات أن الأدوار والفرص يُعاد توزيعها بسرعة كبيرة بين الدول، ولم تعد مقتصرةً على الهيمنة الأمريكية أو «القوة الأعظم الأحادية»، فكما يشرح (بادي) في مقدمة الكتاب، فقد أفضت الهيمنة الأمريكية إلى إذكاء العداء لها، وفي الوقت نفسه عمّقت الود والتعلق بها، مبينًا أن هذه الهيمنة بدأت أحادية منذ العام (1945)، لتصبح فيما بعد متناظرة أو ثنائية في ظل وجود الاتحاد السوفيتي، «وظهور ما يسمى مذاك بتوزازن الرعب، والتعايش السلمي بين القوتين العظيمتين»، بيد أن هذا التوازن انتهى بسقوط جدار برلين، وعودة الهيمنة الأحادية إلى أمريكا «لولا طارئ العولمة، وما يرافقها من ترابط بين الدول قويها وضعيفها، وهو ترابط يجعل القوي مرتهنًا للضعيف» كما يقول (باري).ويخلص (باري) إلى أن أمريكا فقدت قدرت الهيمنة الأحادية، وأنها عاجزة عن تنظيم العالم وفق إرادتها، وهذا ما تشرحه الدراسات التي تتساءل عمّا إذا كانت أمريكا في حالة تقهقر سياسي ودبلوماسي الآن، وعن الانعزالية الجديدة التي يوجزها شعار «أمريكا أولاً»، وعن مسألة الغلبة التكنولوجية، والمنزلة المركزية التي تحتلها التكنولوجيا في العالم السياسي والاجتماعي الأمريكي، كما يتعرض أحد الباحثين إلى الجانب الثقافي، من حيث تمركز أمريكا في موقع الصدارة الذي تشغله في الميادين اللسانية والثقافية والعلمية، رغم ظهور منافسين محتملين، وتفوّق بعض هؤلاء في مجالات محددة، كما فعلت الصين.انزياح...في كتابه «انزياح المركزية الغربية»، يهدف الباحث الفرنسي (توماس بريسون) إلى إعادة النظر في الارتدادات التي نجمت عن تعميم الفكر الأوروبي، معنيًا باثنين من هذه الارتدادات «الكونفوشيوسية الجديدة» التي كما يقول المؤلف «بدأت في مطلع القرن العشرين في آسيا، ثم أعيد إحياؤها عند منعطف السبعينات والثمانينات من قبل باحثين أمريكيين ينحدرون من أصول صينية، و(دراسات ما بعد الكولونيالية)، وهي ثمرة التعاون بين مفكرين عرب وهنود يعملون كذلك في جامعات أمريكا الشمالية».وتشغل «الكونفوشيوسية الجديدة؛ حداثة آسيوية في أمريكا» الجزء الأول من الكتاب، عبر دراسة أصول الكونفوشيوسية الأمريكية، والعلوم والسياسة والأجيال الجديدة في القرن العشرين لهذا التوجّه، وانهياره وإعادة بناءه في العصر الحديث، وصولاً إلى خلق جيل جديد من الكونفوشيوسيين الجدد على الأراضي الأمريكية، وعلاقة الكونفوشيوسية بالحداثة الآسيوية والتغييرات الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، كما يتجلّى ذلك في سنغافورة، ولدى النمور الآسيوية. كذلك يبحث (بريسون) علاقة الكونفوشيوسية باحقوق الإنسان، والتحولات السياسية، إلى جانب التوفيق بين عالمية حقوق الإنسان والخصوصية الكونفوشيوسية، والاستخدامات النقدية والبديلة لهذه الفلسفة الضاربة في جذور آسيا.أما الجزء الثاني من الكتاب «نظرة جديدة على العوالم غير الغربية؛ مثقفون عرب وهنود في الولايات المتحدة»، فيدرس فيه (بريسون) الاستمرارية والقطيعة في النقد العربي، خاصة عند إدوارد سعيد وكتابه «الاستشراق»، كما يتناول أطاريح مدرسة «دراسات التابع» الهندية، والتي تعنى بتقديم قراءة تاريخية ترتكز على أصوات المهشمين والتابعين وتبحث في آثار الاستعمار على الثقافات والشعوب، إلى جانب أطاريح عدد من المفكرين والنقاد الهنود، أمثال (غاياتري سبيفاك)، و(بارثا تشاترجي) و(جيان براكاش)، و(ديبيش شاكرابرتي).وبذلك، فالكتاب إلى جانب رسمه خريطة للأفكار التي تكوّنت في مرحلة ما بعد الاسعمار، «يحيط سوسيولوجيًا بأبرز مفكري هذه الحقبة»، مبينًا تأثير المنفى بشكل خاص على نتائجهم الفكري»، إذ ينطلق «انزياح المركزية الغربية» من فرضية مفادها الانتقال بين عالمين، لفهم تشكل الفكر ما بعد الكولونيالي وتكوّنه؛ «إذ يعيش مثقفو ما بعد الكولونيالية الغربة لدى انتقالهم إلى الغرب، كما يعيشونها في علاقاتهم المستجدة بمجتمعاتهم الأصلية، وهذا الموقف بالضبط سمح لهم برؤية أشكال السلطة العالمية بتلاوينها المختلفة والتفكير فيها تفكيرًا خلاقًا» كما يبيّن (بريسون).
مشاركة :