لم تكن تجربة هينة لليلى عيد.. لم يكن حينها عمرا تحياه.. كانت فقط تمضي يومًا تلو الآخر وهي تقترب من الجرف دون رأفة بها.. فعل انتحار... وخوف يرهب وجودها ولا يذهب.. فتحت قلاعها فاحتلها نبي مزعوم، أتاها غازيا لتنتهي قبل أن تبدأ به.. أتاها مقتحما قلاعها واهما أنه مصلح عابث في أناملها وطفولتها وأنوثتها.. ما أتاها معانقا لتبدأ الوجود به بل أتاها مشوها يفتك بالبدايات قبل أن تبدأ.. أتاها يسرق عمرا.. أتاها يكتمها حتى ظلها وهي التي ظلت وفية له مكرسة له رغما عنها حتى صارت محرمة..أرعبها فراغها من خلوه، رغما أنه لم يكن لها أحد. التمست منه الحياة فأفرغها من جذورها، شرد بها حتى ما عادت تتحرك.. فهل هذا ما أرادت من القدر؟؟ «ترحل قدماي مع يوسف/ لا أعود أقوى/ على الوقوف/ يصيبني خواء/ كحامل/ أجهضت غصبا/ فأنتحر/ مدنا مهجورة/ أتصدع/ أتهاوى/ على أرض مائعة/ أمضغ انتظاره.. / أحن إلى/ نحلات عينيه/ وأصير/ ورود (غراس)/ وصوت فيروز.. / أجف/ أتقدد/ أشياء لا أعلم/ بماذا تنفع/ أقبع/ أتحجر/ أشكالا غريبة.. / بالأمس/ رأيت رأسك/ من ألخلف/ وكتفيك/ صارا قلبي... / غفوت/ لم أستفق/ إلا على جزرك.. / بالأمس أيضا/ لم أرغب بارتداء ملابس/ أرد السير/ وسط الجموع/ ليشهدوا التصاقك/ على جسدي/ وليشموا فوحي..».يباغتها حصار لا تنجو منه، لا لم يجمعها به الحب ولا الحلم ولا الحدس ولا الغيم ولا المطر.. لم يكن قادرا على تدفقها.. هو فقط يتجه بها إلى النهايات.. هو فقط قادر على ابتلاعها نحو الزوال.. آثم بكل تحرك اليها مؤذ بكل وحشية يحولها إلى ذهول حتمي بل إلى شبح لا يدرك اليقين ولا يعرف الدهشة.. تتمدد فوقها الأيام وتشطرها لا تشرق ولا تغيب رغم كل النداءات وهي التي تحتضن من حولها برقة قاتلها حتى يكاد يشفق الموت عليها..ما من ألم أقسى على امرأة من أن تحب رجلا لا يريد الإكتمال بها ومنها ولا يستطيع احتضانها.. لا يطير بها نحو السماء وهي التي أنجبته من سحق ثم أجهضته فتمزق رحمها خشية الفراغ... وبقي معلقا بها كحسرة مرتعبة لا تتآلف فيه النهايات... ها هي تتلاشى وتذوي منذ أن أجهضته تنتحر تتصدع تتهاوى تصير قطة.. بل تتحجر.. تمشي عارية بغية التقاط التصاقها به وتظل تنتظر لعله يعود ولعل صوت ندائه القادم خلال نومها يأتي يشبها هذه المرة. أو لعلها تصبح وردة أو صوتا يحمل أملا.. «يشتد صمتك/ بوزن الألم/ يحيلني قطة أزقة/ وأمعن في انتظارك.. / أعبر إلى النوم/ لا ألتفت/ لا أهتز/ أستسلم،/ سمعت صوتك/ يناديني/ مرات/ ومرات/ يشبهني ولا يشبهني/ يذكرني فقط بشيء مجنون.. / أسير/ لا أعلم إن كنت الميت/ أم حاملة النعش/ أسير وسط كلام لا يجد صوته/ هل يراه الآخرون/ غمامة ملتصقة برأسي؟/ هل أسير ويتدلى مني».تحمل نعشها لا فرق في الروح إن لم توجد... حصاد متأتٍ برعب من صوت لم تعد تميزه من بين أصوات الآخرين.. تتنكر للولادة الأولى كأنها لم تولد بل تذهب بها تستبدلها... تسير دون أن ترى.. يقودها الضياع وهي التي تخشى السقوط مثلنا ولكنها تريد تحريرا فتعيد إبتكار ولادتها.. تختار ميتتها بكامل وعي وهي أن تقع في البئر. تنخلع عنها.. تنظر الى ميتتها لتصبح هى هي امرأة دانتي من جديد.. لغز وجود تستعر له براكينها من جديد فتغلي ثائرة منطلقة الى خلاص أبدي تنتهي به منه.. وتبدأ بها اليها..«ما الفرق/ من يأبه لروح/ لا يطلق شراعها غير إعصار/ بومضة عين/ تحمل بريدا سريا إلى عين أخرى/ أخذتني رياح يوسف... / عبثا/ كأنني لم أولد/ أقتل فم العاصفة/ أسير نحو الحافة/ مغمضة العينين.. / لا أهوى السقوط/ أعشق التحليق/ فلماذا لا أولد إذا/ عندما تحرك مياهي/ وردات النار/ أو ألوان الخزف؟/ لماذا لا أموت/ عندما أقع في البئر؟/ أنظر إلى المرآة/ هل ما أراه هو أنا؟/ تتفتح أبواب الجحيم/ تصبح امرأة/ صفحة من دانتي/ تسيل أمامك/ ولا تعود لغزا.. / كيف حينها/ يضيق بي الزمن/ أصبح أنا الزمن/ الأرض البحر السماء/ التاريخ والطوفان/ تستعر براكيني النائمة/ وأهيم/ آلهة لهب ثائرة... / هل ما أراه هو أنا؟/ أي أنا هذه؟/ هذه أم تلك؟/ يغمرني السؤال.. / ها قد عبرت الآن لا تصدق انسلاخها حتى أنها تحك نفسها كي تتأكد.. / أحك نفسي حتى الدم يا يوسف/ ولا أعلم/ كيف توقد الربيع في/ ومعا أنهمر/ ثلج قطب/ أتبخر / مزارع بن محروقة/ وأخرس/ سهول أرز/ على مستنقعات عطشى». التحول في الجزء الأخير من حيث لا يدري هو مبعث راحة وانتصار بعد الانكسار.. خلصت منه.. ليست بتلك الخسارة.. حتى أنها كومت زجاجات روحها وطوت الكلمات أصمتتها أدركت أنها لا يجب أن تترك شيئا خلفها يذكرها بفرح لم يكتمل ولم يكون ويذكر الآخرين بأنها قد تعود.. لملمت وراءها كل ما لها من أغنية جرت قصائدها وأطبقت على عطرها..«عندما ترحل/ لنأخذ أمتعتنا غبارنا معنا/ لنكوم زجاجات أرواحنا/ التي امتلأت يوما/ لنطو كلماتنا/ وليصمت كل شيء... / عندما نرحل/ يجب ألا نترك شيئا/ لنمسخ تراب الحياة/ عن أفراح لم تكتمل/ عندما نرحل/ حتى أعقل أشباحنا/ تصبح مزعجة/ لن يريدنا أحد أن تعود/ لو صدى أغنية/ لو قصيدة/ لو نجمة / لو عطرا.. / ملون الأيام سيد الغرابة/ تنام على نبض الوقت/ وتصيح نبيا/ مبشر بزمن جديد/ كيف حالك بالأمس؟/ تذوب نبيذا/ نشربك لنستفيق/ كيف حالك اليوم؟/ أمير الظل سر الظلام/ كيف حالك يا يوسف غدا؟».لعل أفضل ما في النهايات هو نقطة الحد الأخيرة التي تفكك الالتحام المتربص بك.. لتنهض منه وتبدأ من جديد. لعلها في احتدامهاتها المؤجلة مع الموت شيء محتوم.. امتد عميقا وأبى إلا أن يأتي في وقته.. لا يكفي فيه البكاء ولا يشفع فيه كل ذاك الجنون والتشرد.. لا تعويض فيه ولا نجاة منه ولا امتزاج به هو طرف واحد لا يتجاوز حدود الذات لا يصل إليه..لا يعود إليها بعد كل الغياب.. لا عزاء به.. وصوت أقدامه أكثر ثقلا من كل العابرين، لا يفهم الحب ولا يعرف أن يعيشه لا تقوى في فحواه.. يلتف به حول نفسه ولكن لا يرى حين ينظر.. وهي في احتواءاتها كأنها شعوب من النساء.. تأكيد النقاء...الخير علاج الكون.. اليقين ليس الإدراك فقط هو أبعد من كل ظن هو إنكشاف إدراكي..هو الإيمان الخالص دون شك.. هو إيمان لا فوقه ولا تحته.. هو وثوق صادق أدرك الدلالة ووثق الصدق فيه.. صار راسخا مهتديا بحكم تأكيد توافقي بين العقل والقلب..أن نحفظ ما بقي لنا منا نحن النساء هو عظمة وانتصار في الحياة.. فكيف ونحن نعبر فوق أشلائنا أو فوق موتات عديدة وأخذنا فيها نحفر قبرا نضعنا فيه كي نحيا..ليلى توثيق مؤكد في موقف امرأة تجاه ارتدادات الزلازل وقت وقوعها.. تجعلنا ندرك الحق في العيش كما الموت.. تليق الحياة بمن يدرك سبيل الكون وصوابه.. لا شيء غير ممكن.. وكل شيء ممكن هذا هو الإيمان.. هو الرغبة في الحياة بالرغم من كل شيء... بالرغم من كل الانحيازات.. هو تجاوز الثائر على فرديته.. هو اشتهاء امراة تملك المعنى وتتجه نحوه دون خشية الفقدان.. ليلى عيد من حيث لا يدري صرنا الآن أقرب أكثر وكلنا بشر يحيا كي يدري!
مشاركة :