تسلل صوت المطربة الصغيرة نجاة من نافذة «بيت الفنانين»، ولفتت انتباه كبار الملحنين في منتصف الأربعينيات، وسطعت موهبتها في العصر الذهبي للغناء، وأثارت الطفلة المعجزة ضجة حول حضورها المتفرد، وتقدم موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب ببلاغ رسمي ضد أسرتها، ليضع أقدامها على طريق الاحتراف بأغنية «كل دا كان ليه». وتتابعت رحلة المغنية التي لقبت بعد ذلك بـ«صوت الحب» عبر أكثر من نصف قرن، ولايزال صوتها الدافئ يلامس وجدان وقلوب الملايين في أرجاء العالم العربي. رحلة حافلة بالتألق والإثارة، قطعتها المطربة الكبيرة نجاة، وارتضت أن يقترن اسمها بلقب “الصغيرة”، وكتب الصحافي فكري أباظة في مجلة “المصوِّر” عام 1946، مقالاً بعنوان “مطربة يجب أن تستولي عليها الحكومة”، طالب فيه الدولة بدعم موهبة واعدة، وقال “إنها الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية حتى يشتد عودها، وفي حاجة إلى عناية حتى تكبر، وهي محافظة على موهبتها، مبقية على نضارتها”. وظل هذا اللقب يطاردها حتى نهاية الستينيات، وحين سُئلت إلى متى ستظلين نجاة الصغيرة، أجابت: “إن كلمة الصغيرة تشدني دائماً إلى الطفولة، ولها وقع ساحر على أذني، وكلما تقدمت بي السن، أحببت هذه الكلمة أكثر وأكثر، فهي تربطني بمرحلة من العمر يعتز بها الإنسان، وإن كان الصغر ميزة فأنا أعتز به، وإن كان عيباً فأعتقد أن الكثيرات يتمنين أن يكون عيبهن”. وكان السياسي الراحل فؤاد سراج الدين أول من أطلق عليها “الصغيرة” عندما كانت طفلة صغيرة لم تتجاوز السابعة من عمرها، ووصفها بأنها معجزة القرن العشرين. اتفق النقاد على أن نجاة وعبدالحليم حافظ، شكلا جزءاً مهماً من تاريخ الأغنية المصرية المعاصرة، ورغم هذا لم يجمعهما عمل مشترك، باستثناء أوبريت “الوطن الأكبر” مع المطربات وردة، وشادية، وفايدة كامل، وصباح، الذي لحنه الموسيقار محمد عبدالوهاب. وقد سُئل العندليب في أحد البرامج التلفزيونية عن المطربة التي يرغب في التعاون معها في عمل سينمائي، فقال ضاحكاً: “نجاة، لأنها قصيرة القامة مثلي”. وتعد نجاة من أكثر المطربات حضوراً على الساحة الغنائية، ولم يخب وهج صوتها الدافئ، وقدمت على مدى أكثر من نصف قرن، قائمة طويلة من أغنياتها العابرة للأجيال، ومنها “أيظن”، و”حبك الجبار”، و”عيون القلب”، و”ساكن قصادي”، و”بحلم معاك”، و”أنا بأعشق البحر”. وخلال مسيرتها الفنية، تعاونت مع كبار الملحنين، ومنهم محمد عبدالوهاب، ورياض السنباطي، والأخوان رحباني، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي، وحلمي بكر، وسيد مكاوي، وهاني شنودة، وصلاح الشرنوبي وغيرهم، حتى اعتزلت الغناء عام 2002، ثم عادت مرة أخرى في عام 2017. وسجلت نجاة علامات فارقة في تاريخ الأغنية الوطنية، بعيداً عن الصخب والحماسة الزائدة، وأبرزها “وطني وصبايا وأحلامي” التي غنتها عام 1957 مع المطرب عبدالرؤوف إسماعيل صاحب الصوت المتفرد، وقدم الثنائي أغنية تتميز بالرقة والعذوبة في عشق الوطن، كتبها الشاعر أحمد مخيمر، ومن ألحان محمود الشريف، ما دفع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في عام 1966 إلى أن يلحن لنجاة أغنية “والله وعرفنا الحب” للشاعر حسين السيد، ليحلِّق صوتُها بعيداً عن نمطية هذا اللون الغنائي، ومازالت الأغنيتان تحققان نسبة استماع عالية عبر المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت. مولد مطربة لم تدخل نجاة إلى عالم الفن مصادفة، فقد وُلدت بالقاهرة يوم الثلاثاء 11 أغسطس عام 1938، ونشأت في منزل أسرة شامية دمشقية، كان معروفاً باسم “بيت الفنانين”، فوالدها محمد كمال حسني البابا، الخطاط العربي الدمشقي الشهير الذي هاجر إلى مصر في شبابه، وتزوج من والدتها المصرية، وعمها الفنان السوري أنور البابا، ومن أشقائها الملحن عزالدين حسني، وعازف العود سامي حسني. وسبقت نجاة شقيقتها السندريلا سعاد حسني في اللحاق بقطار الفن، وكرَّست الأسرة اهتمامها بمطربتها الصغيرة، وتقديمها إلى الوسط الفني، وكان أول أجر تحصل عليه في الإذاعة علبة شوكولاته قدمها لها مؤسس معهد الموسيقى مصطفى رضا، وأول أجر تقاضته في الحفلات 5 جنيهات. ويذكر خبر نشرته مجلة “الجيل” المصرية في 16 أبريل 1956 أن “نجاة الصغيرة بدأت نجمة لامعة وهي في السابعة من عمرها في حفلة بالإسكندرية، وكانت تغني أدوار أم كلثوم، وهي الآن تقترب من سن العشرين، وفي أمجد أوقاتها، ولها 10 إخوة وأخوات أشقاء وغير أشقاء، احتكرها والدها عشرة أعوام، وكان يجبرها على تناول أدوية تمنع نمو جسمها حتى تظل صغيرة الحجم، وهربت مع شقيقها الموسيقي عزالدين، ثم استقلت بحياتها”. وفي مقابلة تلفزيونية مسجلة في منتصف الستينيات مع المذيعة الراحلة سلوى حجازي، ذكرت نجاة أن لها 7 أشقاء وشقيقات، وحسمت الجدل حول أنهم 17 من الإخوة والأخوات، وأن بعض وسائل الإعلام اعتبرت أشقاء سعاد حسني من أمها إخوة لنجاة، بينما ذلك غير صحيح، ذلك أنهم ليسوا أولاداً لمحمد حسني ولم تنجبهم “والدة نجاة”، والحقيقة أنهم أربعة أولاد وثلاث بنات أشقاء وشقيقات من أمها وأبيها، وهم عزالدين، ونبيل، وفاروق، وسامي، وخديجة، وسميرة، وعفاف. وفي تلك الأجواء انطلقت موهبة نجاة، وبدأت الغناء في الخامسة من عمرها، ثم تحمست العائلة لغنائها في الحفلات، ودفعت بها في سن مبكرة إلى عالم الاحتراف، وعن تلك الفترة قالت: “شعرت بعذاب المسؤولية وأنا طفلة في السابعة من عمري، وكنت عندما أعود من الحفلة التي أغني فيها، يلتف أهلي حولي، ليحاسبوني على أخطائي، وكنت وأنا أغني أرى أطفالاً في سني وأكبر مني جالسين في صفوف المتفرجين، ومنهم من يتناول من أبيه قرشاً ليشتري شوكولاته، أما أنا فكنت أعود إلى بيتي لأقدم الفلوس إلى أهلي، وأنا محرومة من الشوكولاته، ورغم هذا أنا فخورة بهذا العذاب، وأسأل الله أن ينجيني من كل عذاب إلا هذا العذاب، فهو جوهر بقائي كفنانة”. السكون الصاخب وفي تلك الفترة، سمع المخرج محمود ذو الفقار عن الطفلة المعجزة “نجاة الصغيرة”، وأسند إليها دوراً صغيراً في فيلم “هدية” عام 1947، وشارك في بطولته عزيزة أمير، وأحمد علام، وزوزو شكيب، وفردوس محمد، ومحمود شكوكو، ولعبت نجاة دور ابنة انفصل والداها، لشك الزوج في سلوك زوجته، وفي النهاية يكتشف الحقيقة، ويجتمع شمل الأسرة من جديد. عندما بلغت نجاة سن التاسعة عشرة، كلَّف والدها شقيقها الأكبر (عزالدين) ليدربها على حفظ أغاني أم كلثوم، لتقوم بأدائها فيما بعد في حفلات الفرقة، ووصلت نجاة إلى درجة من الإتقان مكنتها من تقليد كوكب الشرق، وفي السنوات العشر الأولى من مسيرتها الغنائية قلدت نجاة مطربات هذا العصر مثل ليلى مراد، وفتحية أحمد، وحينئذ اعتبرت عائلتها أن تلك المرحلة بمنزلة “تدريب” لصوتها. وكان للموسيقار محمد عبدالوهاب رأي آخر، حين قدَّم في عام 1949، شكوى رسمية في قسم الشرطة ضد والد نجاة، ادعى فيها أن هذا التدريب عرقلة للعملية الطبيعية لتنمية صوتها، وأنها ينبغي أن تُترك وحدها لتتطور بشكل طبيعي من دون تلك التدريبات، ولكن قطار الطفلة المعجزة ظل ينطلق بأقصى سرعة نحو عالم الأضواء والشهرة. وكانت بدايتها الفنية الحقيقية، عندما قدَّم لها الشاعر مأمون الشناوي أغنية “أوصفولي الحب” من تلحين محمود الشريف، وتعاونت نجاة بعد ذلك مع عبدالوهاب في لحن “كل دا كان ليه” وباتت مطربته المفضلة التي يخصها بأجمل ألحانه، مثل “لا تكذبي”، و”أيظن”، و”مرسال الهوى”، و”ساكن قصادي”، ووصفها بأنها “صوت السكون الصاخب”. ومنذ ذلك الوقت أحاطت نجاة نفسها بكوكبة من الفنانين والكتاب، أمثال محمد التابعي، ومأمون الشناوي، وكامل الشناوي، وفكري أباظة، ومحمود الشريف، ورؤوف ذهني، وشقيقها عزالدين حسني، وكانوا بمنزلة مستشارين يسدون إليها النصائح، وينيرون الطريق أمامها، وإلى جانب موهبتها عُرفت نجاة بدقتها المتناهية في العمل، وحرصها الشديد الأقرب إلى الوسوسة، وكان لهذا الحرص دور كبير في نجاحها المستمر.
مشاركة :