تهاوي أسعار النفط وتراجع وارداته التي يعوّل عليها العراق بشكل أساسي لتمويل ميزانيته يعقّدان مهمة رئيس الوزراء الجديد الذي تلاحقه المطالب الملحّة برفع مستوى الخدمات العامة وتحسين الأوضاع الاجتماعية، فيما سيكون مفتقرا بشدة للموارد المالية اللازمة لتحقيق ذلك، الأمر الذي سيبقيه بشكل مستمر تحت ضغوط الشارع المتحفّز للغضب والاحتجاج. كشفت إحصاءات رسمية أن العراق خسر ما يقرب من 11 مليار دولار نتيجة انخفاض أسعار النفط خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الحالي، مقارنة بالعام الماضي. وأظهرت الإحصاءات، التي نشرتها شركة تسويق النفط العراقية “سومو”، أن العراق باع خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الحالي أكثر من 409 ملايين برميل من النفط الخام، وبمعدل سعر بلغ ما يقارب 38 دولارا، فيما بلغت الإيرادات أكثر من 15 مليار دولار. أما بالنسبة للعام الماضي فبيّنت الإحصاءات أنّ البلد باع خلال الأربعة أشهر الأولى من العام كميات من النفط تجاوزت 423 مليون برميل بمعدل سعر بلغ 62 دولارا، وبإيرادات تجاوزت 26 مليار دولار. وانخفضت أسعار النفط بشكل كبير بعد دخول السعودية في حرب أسعار ضدّ روسيا ورفعها المفاجئ لإنتاجها اليومي من الخام، وتفاقم الوضع مع تفشي فايروس كورونا نتيجة التوقف شبه التام للحياة الاقتصادية في دول العالم، مما قلل الطلب على النفط، وجعل الاتفاق على خفض الإنتاج بين دول مجموعة أوبك+ غير ذي جدوى في وقف تدهور أسعار الخام. ولا يعود سوء الأوضاع الاقتصادية والمالية في العراق، إلى التطورات الأخيرة فحسب، لكنّه ناتج عن تراكم سنوات طويلة من الفشل الحكومي في إدارة شؤون الدولة والتحكّم في مواردها وحسن توظيفها، وعن استشراء الفساد بشكل جعل البلد ضمن أكثر بلدان العالم فسادا، الأمر الذي أثّر على الجوانب الاجتماعية وأفضى في الأخير إلى اندلاع انتفاضة شعبية غير مسبوقة في أكتوبر الماضي. وبينما يطالب المحتجّون بتحسين مستوى الخدمات العامّة وتوفير الوظائف والحدّ من معدّلات الفقر، تسير الأمور نحو الأسوأ حيث أصبح مطروحا في البلد سيناريو عجز الدولة عن دفع رواتب الملايين من الموظّفين الذين يغص بهم القطاع العام المتضخّم بشكل كبير، فضلا عن جرايات المتقاعدين. واحتاج دفع تلك الجرايات تدخّلا عاجلا من الكاظمي نفسه الذي قام بزيارة مفاجئة إلى مقرّ دائرة التقاعد الوطنية ببغداد ووجّه بإيجاد آلية لتسريع معاملات المتقاعدين. وعلى هذه الخلفية ينطلق رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي في مهمّة إنقاذ بالغة الصعوبة تلاحقه مطالب عالية السقف لكنّه لا يمتلك واقعيا وسائل تحقيقها بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي عمّقتها جائحة كورونا وتهاوي أسعار النفط، وأيضا بسبب تعقّد الوضع السياسي وهشاشة الوضع الأمني. ومطلوب من الكاظمي بشكل عاجل إدارة أزمة جائحة كورونا ومنع تفشي الوباء على نطاق واسع، قبل التفرّغ لتلبية مطالب المحتجّين الذين نجحوا في إسقاط حكومة سلفه عادل عبدالمهدي، وهي مطالب تتراوح بين تحسين الأوضاع الاجتماعية ومحاربة الفساد وتحقيق سيادة القرار الوطني واستقلاله عن دوائر النفوذ الأجنبي، وضبط السلاح المنفلت الموجود بأيدي الميليشيات والذي استخدم في قمع المحتجّين أنفسهم. لكنّ مهمّة الكاظمي في تحقيق كل ذلك تبدو بالغة الصعوبة خصوصا وقد ورث عن سلفه عبدالمهدي وضعا ماليا في غاية السوء، سيحتّم عليه البحث عن موارد من قروض ومساعدات خارجية للتعويض عن النقص الفادح في موارد النفط الذي يعتمد عليه العراق بشكل كبير في موازنته. ويقول الخبراء الاقتصاديون والماليون إنّ الخيارات محدودة أمام مصطفى الكاظمي للبحث عن موارد مالية لسد عجز الميزانية، وإنّ أمامه طريقان لذلك هما الاقتراض وطلب المساعدات الدولية، وكلاهما ينطويان على عوائق. وتقف في طريق الحصول على مساعدات خارجية مجزية الأزمة الاقتصادية العالمية الحادّة التي بدأت تطال أكثر الدول ثراء والتي يمكن أن يتوّجه إليها العراق لطلب المساعدة، أما الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية فيعوقه عدم ثقة تلك المؤسسات في العراق نظرا لاستشراء الفساد فيه وضعف اقتصاده القائم على ريع النفط. كما لا يخلو الأمر من عوائق سياسية، إذ أنّ حصول العراق على مساعدات من قبل بعض الدول لن يكون من دون شروط. وعلى سبيل المثال يُستبعد أن تُقْدم الولايات المتّحدة والسعودية على مساعدة العراق إذا لم تلمسا جدّية لدى حكومته الجديدة في فكّ الارتباط بإيران وتقليص نفوذها وسطوتها في البلد. وحتى وإن توفّرت لدى الكاظمي إدارة للإقدام على ذلك فإن الأمر سيتطلّب مسارا طويلا ومعقّدا وقد يستدعي خوض صراع شرس ضدّ قادّة أحزاب وميليشيات نافذين ومعروفين بولائهم لطهران. أمّا الاقتراض من صندوق النقد الدولي فيتطلّب الخضوع لشروطه التي تتلخّص على وجه العموم في إدخال إصلاحات قاسية وغير شعبية تتضمّن التقليص من التقديمات الاجتماعية من دعوم وتعويضات والحدّ من أعداد موظفي القطاع العام، وهو ما لا يقدر عليه رئيس الوزراء العراقي الجديد على الأقل في أمد منظور اعتبارا لحاجته الأكيدة لضمان هدوء الشارع والحدّ من غضبه. سوء الأوضاع الاقتصادية والمالية للعراق ليس ظرفيا بل هو نتيجة سنوات طويلة من الفشل في إدارة موارد الدولة وتوظيفها كذلك لا تخدم الأوضاع الأمنية في العراق على تحسين الوضع الاقتصادي إذ تعوق جلب الاستثمارات الخارجية. ورغم أن البلد تمكّن سنة 2017 من حسم الحرب ضدّ تنظيم داعش التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، إلا أن التنظيم ظلّ يمتلك خلايا نائمة له في أنحاء متفرّقة في البلد، وقد عمد أخيرا إلى إعادة تنشيطها واستخدامها في شنّ هجمات خاطفة أوقعت خسائر بشرية ومادية. ولا يساعد الوضع السياسي للعراق مصطفى الكاظمي على إنجاز مهمّته الصعبة مع وجود طبقة سياسية حريصة في المقام الأول على حماية مكاسبها السياسية وامتيازاتها المالية ولو على حساب المصلحة العامّة. ولا يعني الدعم الذي حظي به الكاظمي من قبل طيف واسع من الأحزاب والمكوّنات ومكّن حكومته من نيل ثقة البرلمان أنّه يمتلك حزاما سياسيا يتيح له العمل بأريحية واتخاذ القرار بسلالة، إذ سرعان ما ستعود تلك الأحزاب إلى تقييم سياساته وقراراته بمعيار ما سيحقق لها من مصلحة وما يضمن لها من امتيازات. وتطمع الأحزاب التي مكنت الكاظمي من قيادة السلطة التنفيذية في أن ينجح في إنقاذ النظام القائم بعد أن هدّدته الانتفاضة الشعبية بالسقوط، وهي مستعدّة لتقاسمه هذا النجاح، بقدر استعدادها لجعله شمّاعة تعلّق عليها الفشل والإخفاقات المحتملة.
مشاركة :