يحتلُّ هاجس تشخيص التداعيات الاقتصاديَّة السلبية لجائحة كورونا المستجدة، وتحديد أبعادها المستقبليَّة وسبل معالجتها حيزا كبيرا في أذهان المواطنين، وتفكير قادة الدول وإدارات المؤسسات الحكومية والمنشآت الخاصة وجهودهم. أكثر التساؤلات أهمية، تلك المتعلقة بتقدير تأثير الجائحة في القطاعات الاقتصادية والميزانية الحكومية، وفيما إذا كان الاقتصاد يعاني من انكماش أو كساد، بالإضافة إلى تحديد السياسات المطلوب اتباعها لتخفيف أضرار الصدمة الاستهلاكية والإنتاجية الراهنة وآليات إنعاش الاقتصاد؟ خلال الأسابيع المنصـرمة، تعددت الدراسات والتقارير الاقتصادية التي تناولت تداعيات الجائحة وسبل معالجتها. اقتصر معظمها على تقديم “سيناريوهات” وتوقّعات نظرية عامة لتأثيرها في اقتصاد دول مختارة، أو في هيكل الاقتصاد العالمي خلال المرحلة الراهنة والحقبة المقبلة. في حين طرحت أُخرى تقديرات كمية ورقمية محددةً لتأثير الجائحة في الاقتصاد وقطاعاته، دون الاستناد على بيانات ومعطيات مثبتة، أو تقديم مبررات مقنعة. التوظيف المتوازن لآليات السياستين؛ النقدية والمالية يسهم في تخفيف حدة الصدمة الاقتصادية والفجوة الاستهلاكية التي سبَّبتها الجائحة في ظل استمرار الأزمة وعدم توفّر معلومات وافية، ووجود العديد من المتغيرات المجهولة، وعدم وجود مؤشرات واضحة على توقيت انحسار الجائحة، فإن دقَّة المعلومات مستحيلة. كما أن توقّعات تحديد حجم الأضرار تبقى ضعيفة، ولا يمكن التعويل على نتائجها حتى وإن كانت مبنيَّةً على افتراض مدى استمرار الأزمة. إلى جانب إهمال عوامل “استمرار الأزمة”، وعدم الاستقرار، وصعوبة تقدير الموقف، قدَّم عدد من التقارير توقعات متشائمة مُبالغ فيها وغير موضوعيّة، دون مراعاة تأثيرها في ثقة المستهلكين والمستثمرين وقراراتهم الآنيّة والمستقبليّة. لقد نجح أصحاب التوقّعات الكارثية في تحويل حالة الذعر الوبائي إلى ذعر اقتصادي. هل تعاني اقتصاديات الدول من ركود؟ أم أنَّها دخلت مرحلة الانكماش الاقتصادي؟ اقتصاد الغالبية المطلقة من دول العالم، يعاني في هذه المرحلة من تباطؤ اقتصادي حاد جراء تراجع الطلب على السلع والخدمات، وتأثير متغيِّرات اقتصاديَّة أُخرى، لكنَّها لا تمر بمرحلة “الانكماش الاقتصادي” لسبب جوهري. حالة الانكماش تطلق حين يسجل نموا سلبيا متواصلا في قيمة الناتج المحلي الإجمالي لمدة زمنيَّة لا تقل عن ستة أشهر. لقد أفرزت التدابير الاحترازيّة الوقائية، القسريَّة المفروضة منها والاختيارية، لكبح جماح الجائحة آثارًا اقتصاديَّة متفاقمة من خلال تأثيرها السلبي في نشاطات الاستهلاك والخدمات والإنتاج والاستثمار والنقل والماليَّة العامَّة وغيرها من الفعاليَّات الاقتصاديَّة. شدَّة التأثيرات، وسعتها تباينت تبعًا لهيكل الاقتصاد وقوَّته وتطوُره وقدراته الماليَّة والائتمانيّة. هذه التدابير أسهمت في عرقلة آليَّة السوق القائمة على التواصل المباشر، وتوقف عمليَّة التبادل السلعي والنقدي بين طرفيه، وفي تعطل جزء كبير من النشاط الإنتاجي، وتسريح نسبة مؤثِّرة من قوَّة العمل وانخفاض مستوى الدخل الكلِّي، وفي تراجعٍ حادٍّ في الطلب على معظم السلع الاستهلاكيَّة وبالتالي إلى انخفاض الطلب الكلي على السلع والخدمات. تأثير الإجراءات الاحترازيَّة طال أيضا القطاعات الاقتصادية والمنشآت التجارية والمالية كافّة، إلا أن أضرارها كانت أكثر حدة على المنشآت الصغيرة والمتوسطة الحجم بسبب توقُّف السيولة النقديَّة، وعدم إيجاد احتياطات مالية تساعد على مواصلة نشاطها. قائمة القطاعات والنشاطات المتضـررة، تشمل الخدمات اللوجستية: النقل الجوي والضيافة والسياحة والترفيه، وتجارة الجملة والتجزئة، والإنشاءات والعقارات والخدمات العامة والمالية ونشاط التأمين، ونشاطات تجارية واقتصادية أُخرى. إلى جانب تأثيرها في مفاصل الاقتصاد الجزئي، أثرت التدابير الوقائية كذلك في مكونات الاقتصاد الكلي؛ الموازنة العامة وسوق العمل خاصة. نفقات برامج التحفيز الاقتصادي والمالي التي اعتمدتها الدول لمواجهة تداعيات الجائحة الاقتصاديَّة، وارتفاع نفقات القطاع الصحِّي ومساعدات الدعم الاجتماعي، ودعم دخول المواطنين العاطلين عن العمل، ضخّمت الإنفاق العام بشكل حاد وغير متوقَّع. الزيادة في النفقات صاحبها انخفاض كبير في الإيرادات بسبب انخفاض استحصال الضرائب، ورسوم الخدمات الحكومية وتأجيلها. هذه التغيرات المتعاكسة في جانبي الميزانية أنتجت عجزا في الميزانية وارتفاع حجم الديون الداخليَّة والخارجيَّة. في ظل استمرار الأزمة وعدم توفّر معلومات وافية، ووجود العديد من المتغيرات المجهولة، وعدم وجود مؤشرات واضحة على توقيت انحسار الجائحة، فإن دقَّة المعلومات مستحيلة الانكماش الاقتصادي – وفقًا للنظرية الكينزية – ظاهرة تنجم عن تراجع حاد في الطلب الكلِّي على السلع والخدمات. وقد برهنت تجارب الركود والكساد الاقتصادي – بدءًا من الكساد العظيم – صوابها النظري ونجاعة ما اقترحته من سياسات إنعاش وتحفيزات ماليَّة ونقديَّة، وبرامج دعم القوَّة الشرائيَّة للأفراد لزيادة حجم الطلب الكلِّي على السلع والخدمات. التوظيف المتوازن لآليات السياستين؛ النقدية والمالية يسهم في تخفيف حدة الصدمة الاقتصادية والفجوة الاستهلاكية التي سبَّبتها الجائحة برغم كلفها المالية المستقبلية. لذلك يجب اعتماد السياسات والآليات الأُخرى من الخيارات. المحنة الراهنة، مع ما أفرزته من تحديات وخسائر فردية وجماعية وتداعيات اقتصادية واجتماعية متفاقمة، تتيح للحكومات والمنشآت الخاصة فرصة تاريخية لمراجعة أولويات خططها الاقتصادية والتنموية وأهدافها، وإعادة صياغة استراتيجياتها وفق مفاهيم وآليات تنفيذيَّة جديدة، قادرة على بناء اقتصاد متين ومستدام.
مشاركة :