نزاع على قطعة أرض ينتهي بجريمة قتل في منطقة مهجورة

  • 5/15/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

انطلق دوي الرصاص، وفر القاتل من مسرح الجريمة، وترك ضحيته ملقاة في حقل للقصب، وتحسس طريقه في بداية الليل عائدا إلى منزله، وأدرك أن أصابع الاتهام ستحاصره، لاسيما أن أهل القرية يعرفون خلافاته المتكررة مع ابن شقيقه، وحين عاد إلى منزله، جمع بعض ملابسه وأوراقه الشخصية في حقيبة، وأخبر زوجته وأولاده أنه سيسافر إلى القاهرة، لقضاء بعض الأعمال هناك، وغادر مسرعا إلى محطة القطار. استشعرت الزوجة أن سفر زوجها المفاجئ، يعني أن ثمة شيئا خطيرا قد حدث، ودفعه إلى مغادرة القرية، وكان قراره حاسما، ولم يترك لها فرصة سؤاله عن هذه الأعمال التي من أجلها سافر إلى القاهرة، وحين أغلق وراءه الباب، تملكها هاجس أنه سيغيب فترة طويلة، وتأكد ظنها حين قال لها: "خلي بالك من سالم، وإذا تأخرت باشري المزرعة بنفسك، وخذي عائد المحصول، واصرفي منه حتى أعود" فسألته: "ماذا جرى يا عباس؟" تمالك نفسه وقال مبتسما: "لا شيء... اطمئني أنا راجع ولن أتأخر". وتضاربت الأفكار في رأس "فهيمة" وساورتها الشكوك أن يكون زوجها الذي تجاوز الأربعين قد تزوج من أخرى، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، وكان يقول لها إنه سيتزوج على سبيل المزاح، ويقضي معظم الوقت في مزرعته، ولا يعود إلى المنزل سوى لتناول الطعام والنوم، وترك لها مسؤولية تربية ولدهما الوحيد سالم، ويشعر بالسعادة عندما يعرف أنه متفوق في دراسته، ووعده بمكافأة كبيرة حين يتأهل لدخول الجامعة، وكان يتباهى به أمام عائلته وأصدقائه من أهل القرية. استيقظت فهيمة في الصباح على جلبة وطرقات مدوية على الباب، ورأت أمامها رجال الشرطة يسألونها عن زوجها، فأخبرتهم بسفره إلى القاهرة، وبعد تفتيش المنزل، أخبرها الضابط أن زوجها متهم بقتل ابن شقيقه، وقد عثروا على جثة الأخير ملقاة في أحد حقول القصب، وصرخت المرأة صرخة مدوية، وهوت على الأرض من وقع الصدمة، بينما ولدها سالم يحاول إفاقتها، والدموع تنسال من عينيه. ارتدت فهيمة ثوب الحداد، وقاطعها أهل القتيل، رغم معرفتهم أنه لا ذنب لها فيما حدث، وتحول الصمت إلى كراهية ونفور مستتر، ولكن حكماء القرية ذهبوا إليها، وأخبروها أنهم أخذوا عهداً على أسرة المجني عليه، بألا يتعرضوا لها ولابنها سالم، وعليها أن تتحمل مسؤولية المزرعة التي تركها لها زوجها الغائب، فثأرهم ليس معها بل مع عباس، وإذا عرفت شيئا عنه، أو اتصل بها، فعليه أن تقنعه بالعودة، حتى يعقدوا "مجلس الصلح" ويدفع "الدية"، وهذا أفضل من هروبه، وأومأت المرأة برأسها دون أن تنبس بكلمة واحدة، وبعد انصرافهم أجهشت بالبكاء. مرت الأيام بطيئة، وشعرت أنها هرمت فجأة، رغم أنها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، وصارت رجلاً عتياً يتخفى في ثوب امرأة، وطالت التجاعيد ملامحها الجامدة، وأظهرت شراسة في التعامل مع عمال المزرعة، وساعدها على ذلك أنها نالت قسطاً من التعليم، وتجيد الحسابات والأرقام، وصار لها مهابة أمام التجار عند شرائهم لمحاصيل الفاكهة، ولكنها ظلت طوال الوقت خائفة على ولدها سالم، ويعتصرها الألم لغياب زوجها الهارب. أمواج عاصفة ارتمى عباس على أول مقعد، محتضناً حقيبته، وتحرك القطار بطيئا، وظل ينظر من النافذة، كأنه يودع قريته للمرة الأخيرة، وتحاشى أن تلتقي نظراته بعيون الركاب، خوفا من أن يجد أحدا يعرفه، ويثقل عليه بفضوله لمعرفة أسباب سفره إلى القاهرة، وحينئذ مهما اختلق من أكاذيب، سيلازمه هذا الشخص كظله، حتى يعرف وجهته، وبالفعل لمحه أحدهم، وهم بمصافحته ولكنه رد عليه بفتور شديد: "مشوار خاص بالشغل... حأكلمك لما نوصل بالسلامة" وعاد الشخص إلى مقعده، وأوهمه أنه استغرق في إغفاءة، حتى لا يزعجه مرة أخرى. عصفت الأفكار برأس عباس، كأمواج عاصفة، وتملكه شعور بالذنب، فقد تحول إلى قاتل هارب من الثأر أو السقوط في قبضة الشرطة، وأمامه سفر طويل حتى يصل إلى القاهرة، وهناك ستبتلعه العاصمة، ولن يتعرف عليه أحد، وكان عليه أن يدبر أموره بما معه من مال، وأن يبحث عن مأوى مناسب، ولا يثير الشبهات حوله، حتى يتمكن من مغادرة مصر إلى دولة أخرى، وحينها يتصل بزوجته، ويطلب منها بيع المزرعة، والمجيء إليه مع ابنهما سالم، ويبدآن حياة جديدة. أفاق عباس من هذيانه على صوت المحصل، فأبرز له تذكرة السفر، بينما الشخص الفضولي نادى عليه قائلا: "تشرب شاي يا أبوسالم" فأومأ له شاكرا، وعاد إلى إغفاءته المصطنعة، وتملكه الحنق من هذا الرجل، وكأنه ركب القطار خصيصا لمراقبته، وفكر في طريقة للتخلص من هذا الفضولي، قبل انتهاء الرحلة الطويلة، وكلما فتح عيناه وجده ينظر إليه مبتسما. قطع القطار مسافة طويلة من رحلة الهارب، وابتعد الأخير عن قريته في جنوب مصر، وبات على أعتاب الوصول إلى القاهرة، وفي لحظة مباغتة، تسلل من مقعده إلى عربة بعيدة، وتخلص من ملاحقة الشخص الفضولي، وفكر أنه لو ظهر فجأة، سيتعلل بأنه تعب من كثرة الجلوس، وقام ليتمشى بين العربات، وأنه سيعود إلى مقعده، وإذا فتح باب النقاش من جديد فسينهره بشدة، وكان عليه أن يظل واقفا المدة المتبقية، حتى توقف القطار في المحطة، واختفى في الزحام. استقل عباس عربة المترو دون أن يعرف وجهته، وقرر النزول في محطة حلوان، حتى يتخلص نهائيا من ظهور الشخص الفضولي، وهناك جلس على أول مقهى صادفه، وقرر أن يستبدل ملابسه الريفية بأخرى عصرية، وأن يغير من ملامح وجهه، بحلق شاربه، وبذلك لن يتعرف عليه أحد، وبقيت مشكلة المأوى، واستبعد فكرة الإقامة في الفنادق، لأنها أسهل طريقة للتعرف على الهاربين من أحكام أو مرتكبي الجرائم، وعليه أن يبحث عن عمل يتيح له المبيت، وإذا استشعر الخطر يتركه في الحال. آلام العزلة مرت 3 سنوات على اختفاء عباس، وأدركت فهيمة أنه لن يعود مرة أخرى، وأيقنت أن الشرطة ليست وحدها من يبحث عنه، بل من يريدون الثأر منه، وكلما أخفقوا في الوصول إليه، يتكرر استجوابها من جديد عن مكانه، واستشعرت أنها مراقبة طوال اليوم من الجهات الأمنية ومن متعقبي زوجها الهارب، حتى أنها تقدمت ببلاغ بعدم تعرض أهل القتيل لها، وكلفت أحد عمال المزرعة بحراسة سالم أثناء ذهابه وعودته من المدرسة، ومنعته من مقابلة أصدقائه، وحاصرتها آلام العزلة مع ابنها، ونظرات الاتهام من أهل القرية على جريمة لم ترتكبها، ولولا بأسها لانهارت أو فرت هاربة من حياة تعصف بها المخاطر. كانت المشكلة قائمة على ملكية قطعة أرض، وأرجئ البت فيها إلى حين ظهور عباس أو الثأر منه، وحين طالت مدة غيابه، عاد حكماء القرية للتفاوض مع فهيمة، للتنازل عنها لأهل المجني عليه، وبذلك تضمن عدم مضايقتهم لها، وفي بادئ الأمر رفضت التنازل عن شيء، فأقنعها الحكماء أن هذا أفضل الحلول للنزاع، وأن الأمر سيظل ودياً دون توثيق أو أوراق لا تملك التوقيع عليها قانونيا، والمطلوب أن تترك لهم الأرض المتنازع عليها، ليباشروا ملكيتها بمعرفتهم، حتى لا تتفاقم الأزمة، وتدخل طرفا في صراعات لا طائل من ورائها، وقد تفضي إلى أزمات لا يمكن السيطرة عليها. أدركت فهيمة أن عباس ترك لها إرثا من الأزمات، لا تقوى على تحملها بمفردها، وأنها لا يمكن أن تسبح ضد التيار، وتعرض نفسها وابنها للخطر، وأن قطعة الأرض المتنازع عليها لا تشكل أهمية بالنسبة لها، وطالما حاولت مرارا أن تقنع زوجها أن يتنازل عنها لابن شقيقه، ولكنه كان ينهرها بشدة، ويطلب منها عدم التدخل في شؤون عمله، ولكنها لا تملك إلا أن توافق على نصائح حكماء القرية، وتتركها لأسرة المجني عليه، ويكفيهم أنه راح ضحية تهور زوجها، وعناده الشديد، حتى عمت الخسارة على الطرفين، فهم فقدوا ابنهم، وهي فقدت زوجها، وباتت عودته مستحيلة، ولم يبق لها سوى ابنها سالم، وعليها أن تفعل أي شيء لحمايته من المخاطر. وفي أحد الأيام، اشتد الطرق على الباب، وحين فتحت فهيمة، وجدت أمامها أحد أفراد الأمن، يطلب منها الذهاب معه، لأن الضابط يريد إبلاغها بأمر مهم، ورفض الرجل الإفصاح عن شيء، وتسارعت ضربات قلبها طوال الطريق، وأدركت أن الأمر يتعلق بزوجها الهارب، ودارت التساؤلات برأسها، هل قبضوا عليه أم عثروا عليه مقتولا، أم سيجددون استجوابها عن مكان اختفائه، وفي مقر الشرطة التابع للقرية، أخبرها الضابط المسؤول أن عباس وقع في قبضة الشرطة، وأعطاها عنوان القسم المحتجز فيه، إذا كانت ترغب في زيارته. سقوط الجاني عاد الهارب إلى نقطة البداية، بعد ثلاث سنوات من التخفي، ظن خلالها أنه في مأمن من السقوط في قبضة الشرطة، رغم إدراكه أن هذا الارتياح مجرد سراب مخادع، وبات محاصرا بشكوك من يلجأ إليهم باحثا عن مأوى وفرصة عمل، وأوصدت الأبواب في وجهه، لعدم إبرازه أوراق تثبت هويته، بحجة أنه فقدها مع نقوده أثناء سفره في القطار، وظل يماطل في استخراجها، حتى يضطر صاحب العمل إلى طرده، بينما يقظة رجال الشرطة، وضعت نهاية لمسلسل هروبه المتكرر، وقبضت عليه أثناء وجوده في أحد الأماكن المهجورة بمحافظة الجيزة. واقتيد المتهم الهارب إلى قسم الشرطة، وأدلى باعترافاته أمام المحقق، وأنكر تعمده قتل ابن شقيقه، وأن القصة بدأت عندما تفجر الخلاف بينهما على قطعة أرض، ووصل النزاع بينهما إلى حد القطيعة، وحاول حكماء القرية إخماد نار الشجار، لكنه تمسك بحقه في ملكية الأرض المتنازع عليها، وأنه سيلجأ للإجراءات القانونية، مادام ابن شقيقه لا يريد التفاوض الودي، وظل النزاع قائما دون حل يرضي الطرفين. وأقر المتهم أنه عرض على المجني عليه مبلغا ماليا كبيرا مقابل تنازله عن ملكية الأرض، ولكنه أصر أنه ورثها عن والده المتوفى، ولا يجوز أن يفرط فيها، فأخبره أنها أيضا جزء من ميراثه مع أخيه عن والدهما، وأنه يرغب في إنهاء هذه الخصومة، لاسيما أنهما من عائلة واحدة، ومن العار أن يتدخل الغرباء لحل مشاكلهما الخاصة، وأن هذا يضعف هيبتهم بين أهالي القرية، ويصبحون لقمة سائغة في أفواه البعض، ولكن ابن شقيقه، زاد في تعنته، ورد عليه بجفاء قائلا: "لن أتنازل عن شيء وإذا كنت عمي حقا فاعتبرني مثل ابنك سالم، واترك لي الأرض لأباشر زراعتها". وأدار الشيطان رأس عباس، وحانت لحظة الانتقام، عندما ذهب للتفاوض من جديد مع ابن شقيقه، وطلب منه أن يأتي معه ليتحدثا بعيدا عن الأهل، وأن لديه عرضا جديدا، يأمل أن يجد قبولا لديه، وفي النهاية هذا الخلاف بين ابن شقيقه وليس شخصا غريبا، وأنه تعب من حالة الخصام، ولابد من وضع نهاية له، ووافق الشاب على الذهاب مع عمه، وظل يتحدث معه، حتى اختفيا عن الأنظار، وفي لحظة مباغتة، استل مسدسه وأرداه قتيلا، وحمل جثته، وألقى بها بين حقول القصب، وأسرع في مغادرة مسرح الجريمة. انتهت اعترافات المتهم، وتم حبسه احتياطيا إلى حين مثوله أمام المحكمة، وبينما تحاصره أوهامه المستحيلة من جديد، أفاق على صوت الحارس، ينادي عليه، ويقول له: "زيارة لك يا متهم" وفؤجئ عباس بزوجته وابنه سالم، يجلسان في غرفة مأمور القسم، وتركهم الأخير لبضع دقائق، ثم عاد مرة أخرى، وأمر الحارس باصطحابه مرة أخرى إلى الزنزانة، بينما غادرت فهيمة وسالم مبنى الشرطة، وهما يجهشان بالبكاء.

مشاركة :