إن الإفراط في التوقع والتنبؤ بما ستؤول إليه أزمة انتشار فايروس كورونا في المقالات والدراسات التحليلية، جعلني أعود بذاكرتي إلى تلك التحليلات الغارقة في التشاؤم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين كان السباق محمومًا بين الباحثين والمحللين على إطلاق تنبؤاتهم السوداوية لما سيؤول إليه العالم بعد وقوع تلك الكارثة.كانت النخب السياسية باختلاف ميولها وتوجهاتها تترقب اللحظة الحاسمة لإعلان ولادة النظام العالمي الجديد الذي بشَّرت به مراكز الأبحاث الغربية، وهللت له الصحف والمواقع العالمية، بل إن البعض ذهب بعيدًا في سقف توقعاته إلى الحد الذي جعل من عملية «دمقرطة» الشرق الأوسط برمته مسألة وقت لا أكثر.مرت السنوات بعدها مليئة بالاضطرابات والصراعات المسلحة، بيد أن تلك النبوءات ظلت قابعة في عالم الغيبيات، رغم أن رياح التغيير حملت لنا كعادتها مفاجآت متوقعة وأخرى غير متوقعة، إلا أن كل ذلك يندرج ضمن نواميس الكون التي اعتاد الناس على حدوثها منذ الأزل.ومثلما درجت عليه العادة في كل الأزمات السابقة، اتجهت أنظار العالم الثالث مجددًا إلى ساسة الغرب ومفكريه على اعتبار أن صرامة العقل الغربي وعقلانيته في تحليل الأحداث والتنبؤ بنتائجها المستقبلية تأتي في سياق الانعكاس الطبيعي لتفوقه في كل مجالات العلم والمعرفة، لهذا نحن أمام تحليلات مبنية على استقراء سوسيولوجي قد تصيب وقد تخطئ في حساباتها.لكن من الحمق أن نراهن على أن تحققها أمر مفروغ منه، سواءً في القريب العاجل أو في المستقبل البعيد، فذلك من شأنه تكريس الهزيمة في النفوس والعقول وترسيخ الإيمان باستحالة الانفكاك من تبعية الغرب، وهذا ما تسعى إليه الكثير من مراكز الأبحاث الغربية من خلال نشر دراساتها ذات الصلة لإقناع شعوب العالم الثالث بحتمية استمرار تفوق الغرب وجدارته لقيادة العالم إلى أبد الآبدين.قبل أيام كتب وزير الخارجية الأمريكي الأشهر في عهد الرئيس الأسبق نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر، مقالة بصحيفة وول ستريت جورنال، يتنبأ فيها بأن فايروس كورونا سيغير النظام العالمي إلى الأبد، وأن هذه الأزمة ستستمر إلى أجيال قادمة بسبب تداعياتها السياسية والاقتصادية على النظام العالمي ككل، وهو امتداد لتصريحات سابقة تداولتها وسائل الإعلام الغربية في عام 2011م، لحظة اندلاع ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي» وكان العنوان الأبرز لها هو «إذا لم تستطع سماع قرع طبول الحرب فأنت أصم» ثم أعاد التصريح بها مرة أخرى قبل عام لموقع دايلي سكيب البريطاني.وملخص هذا التصريح يقول إن إيران ستكون ضربة البداية في الحرب العالمية الثالثة التي يجب فيها على إسرائيل قتل أكبر عدد ممكن من العرب واحتلال نصف الشرق الأوسط، وإن هذه الحرب ستكون المسمار الأخير في النعش الذي تجهزه أمريكا وإسرائيل لكل من إيران وروسيا والصين بعد أن منحتها أمريكا فرصة التعافي والإحساس الزائف بالقوة، فإنها ستسقط إلى الأبد! وحتى هذه اللحظة -على الأقل- لم تتحقق هذه التوقعات الموغلة في عدوانيتها.ما أود قوله كخلاصة رأي، حول تنامي ظاهرة الافتتان بتنبؤات العقل الغربي تجاه التحديات والأزمات الراهنة هو أن طبيعة العلاقات الدولية كانت منذ الأزل قائمة في المقام الأول على المصالح المشتركة فيما بين الدول، وإن مرت في مسارها ببعض المنعطفات والمنحنيات الخطرة إلا أنها حتمًا لن تفقد السيطرة على توجيه عرباتها في الاتجاه الصحيح بما يخدم مصالحها وأمنها القومي.
مشاركة :