الإجراءات الاحترازية والتغيرات بنمط الحياة والأعمال التي فرضتها جائحة كورونا يُنظر لها بتباين ما بين مَن يراها مؤقتة، وسيعود كل شيء كما كان سابقًا، ومَن له وجهة نظر أخرى، ترى أن ما قبل كورونا ماضٍ، وأن المستقبل سيشهد تحولاً كبيرًا في تفاصيل عديدة بنمط الأعمال وسلوك الاستهلاك، بل أظهرت أيضًا أن كثيرًا من طرق وأساليب الأعمال والحياة العامة ثبت أنها هدر للمال والوقت، ولم يكن أحد لينتبه لذلك لولا هذا الإقفال الكبير الذي فرض على الدول والشعوب عمومًا تغييرًا واسعًا في إدارة شؤونهم.. لكن ما يمكن اعتباره تحولاً مفصليًّا في كل ما رافق هذه الأزمة هو إعادة النظر في مفاهيم الترشيد، وكذلك رفع كفاءة الإنفاق. فقد أصبح من الضروري قيام جهات عديدة بالتعاون لتبني دراسات حول هذه التغيرات التي طرأت، وهل يمكن أن تستمر فيما بعد زوال هذه الجائحة؟ فالعمل عن بُعد يمكن أن يصبح واقعًا، إما بنسبة عالية أو محدودة، حسب طبيعة عمل كل جهة؛ فقد فتح هذا النمط من أداء الأعمال الباب على تساؤلات حول جدوى الآلية التي كانت تُنجز بها الأعمال، سواء للقطاع العام أو الخاص؛ فالمساحات المكتبية المطلوبة لاستيعاب الموظفين لم تعد تقتصر على ما هو موجود على أرض الواقع؛ إذ إن العمل عن بُعد أضاف لكل جهة مكاتب افتراضية، أي لن يحتاج جزءٌ من الموظفين إلى الوجود بمقار الجهات التي ينتسبون لها، ويمكنهم إنجاز مهامهم من أي مكان عبر منصات العمل التي سيتطور دورها بالمستقبل في تيسير الكثير من الأعمال؛ وهو ما يعني أن كل جهة رسمية أو قطاع خاص يمكنها أن تعيد النظر باحتياجاتها للمساحات التي تشغلها حاليًا، والنظر للتوسعات المستقبلية أو إعادة تصميم المقار التي ينوون توسيعها أو إنشاءها نظرًا لتغير طبيعة إنجاز الأعمال. وقد لا يختلف الأمر بالنسبة للجامعات أو المدارس في حال تطوير استخدامات التقنيات في التعليم عن بُعد؛ وهو ما يوفر الكثير على قطاع التعليم في إشغال المرافق أو الحاجة للتوسع فيها، وكذلك إعادة توزيع المباني الجامعية تحديدًا لتركز على زيادة القبول بالتخصصات العلمية التي تتطلب وجودًا للطلاب بكلياتهم بسبب طبيعة المناهج العملية التي لا يمكن أن يتم التعليم فيها عن بُعد. فلو أُنجزت دراسات خلال هذه الفترة لقياس حجم الترشيد، ورفع كفاءة الإنفاق على ما يمكن تغييره من نمط الأعمال، فإنه سيكون هناك أرقام ضخمة، يتم توفيرها، لا ترتبط فقط بتشغيل المباني وحجم الاحتياج الذي يحقق تيسير الأعمال، بل يتخطى ذلك للتأثير الإيجابي على خفض استهلاك الطاقة، والوقود الذي وصل حجم استهلاكه إلى أكثر من 900 ألف برميل يوميًّا، ونسبة عالية منه قد تُصنف استهلاكًا سلبيًّا، يمكن توفيره لصالح التصدير، إضافة إلى تقليل الحاجة لأعمال صيانة الطرق والمركبات، وتقليص حجم الواردات من قطع الغيار، والوفر أيضًا ببعض بنود الموازنات المرتبطة بتكاليف الموظفين. وفي المقابل فإن التوسع باعتماد التقنية سيرفع من كفاءة الإنفاق، وحجم الأعمال المنجزة سيزيد، وسيتجه الإنفاق إلى التعليم والتأهيل للمهارات والتخصصات العلمية والتقنية؛ وهو ما يقلل من الهدر بالتعليم، ويحقق الكفاءة المرجوة بأن يكون للخريجين مكان بسوق العمل؛ وهذا بدوره يقلص البطالة مستقبلاً، ويعزز من الأمن الاقتصادي بأن تزداد نسب التوطين بالأعمال والوظائف التي تعد الأهم لتشغيل الاقتصاد. قد لا يتسع المجال لذكر تفاصيل واسعة للتغيُّر المحتمل لطبيعة الأعمال بعد هذه الأزمة، لكن من المهم العمل على دراسات من قِبل الجهات ذات العلاقة، بالتعاون مع الجامعات؛ للوقوف على ما يمكن أن يحدث مستقبلاً من تغيُّر بنهج وثقافة العمل، والبحث في ترشيد ورفع كفاءة الإنفاق وفق المستجدات التي تحدث بعالمنا اليوم، والتوسع لتشمل تفاصيل الأعمال كافة، وما يمكن تغييره منها.
مشاركة :