«نعمات»... مأساة طفلة ضحية العنف والتفكك الأسري

  • 5/18/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

عاد محسن إلى مسكنه في إحدى ضواحي محافظة الجيزة المصرية، ووجد زوجته الثانية في انتظاره أمام باب المنزل، وأخبرته أن ابنته تعدت عليها بكلمات قاسية، وأنها لم تعد تحتمل تدليله لها، وعليه أن يرسلها إلى أمها، قبل أن تتمادى في سلوكها الشائن، مادام لا يستطيع تربيتها. وعلى الفور صعد الأب إلى الطابق العلوي، وفي الداخل وجد «نعمات» جالسة على الأرض، وبيدها دميتها، وتنظر إليه بابتسامة بريئة، بينما الشرر يتطاير من عينيه، والمرأة تقف خلفه، وتحرضه على تأديب طفلته، لتقع جريمة يهتز لها المجتمع. تحولت حكاية "نعمات" إلى مأساة حقيقية، لطفلة لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، وكأنها قصة ميلودرامية بطلتها ساقتها الظروف، لتعيش مع أبيها وزوجته الثانية، وتعاني سوء معاملة زوجته، وتكليفها بكل أعمال المنزل، في حين تجرد والدها من الرحمة، وانساق وراء رغبات زوجته التي تصغره بعشرين عاماً، وكان يحاول إرضاءها بشتى السبل، حتى لو كانت الضحية هي ابنته الوحيدة. ومازالت أصداء الجريمة التي وقعت منذ شهور قليلة، تدمي القلوب بقسوتها، وقد راح ضحيتها طفلة بريئة، عانت التفكك الأسري، وقسوة الوالدين غير المبررة، منذ أدركت الحياة من حولها، واستشعرت اليتم رغم أن والديها على قيد الحياة، ولكنها لاقت منهما القسوة والإهمال، خصوصا عندما وقع الطلاق بينهما، ولم تجد منهما سوى الإهانة، والتنصل من المسؤولية، وكأنها ليست ابنتهما، ويتحملانها على مضض، دون التفكير في سعادتها. ولم تجد نعمات سوى دميتها صديقة لها، وكانت تقضي ساعات طويلة لتتحدث معها بصوت خافت، وتشكو إليها سوء معاملة زوجة أبيها لها، وكيف تجردت من الرحمة، وأنهكت قواها في أعمال المنزل، ورغم هذا كانت تحرض أباها، ليعاقبها بالضرب المبرح، حتى تبلدت مشاعرها تماما، وأدركت أنها ولدت للشقاء وجحود والديها، وأنها ذات يوم ستضطر للهروب من المنزل دون عودة. حارت الطفلة الصغيرة في ظروفها السيئة، والتي جعلتها شخصا غير مرغوب فيه، وقد انفصل أبوها عن أمها، وعانت اضطهاد زوجة أبيها، بينما لم تجد الراحة في البيت الثاني، لاسيما بعد أن أوصدت أبوابه في وجهها، وضاق بوجودها زوج والدتها، وأصر على أن تعيش مع والدها، وكان الأخير أكثر قسوة من الجميع، ولاحقها الاضطهاد أينما ذهبت، وتبلدت مشاعرها تماما، ولم تعد تكترث بشيء، وكانت تجلس مع دميتها، وتنتظر مكيدة أخرى من مكائد المرأة التي فضلها والدها على أمها. بدأت رحلة العذاب، عندما تكرر رسوب نعمات في المدرسة، وقد سبب لها الاضطهاد قصورا في تحصيل دروسها، ومنعها والدها من استكمال تعليمها، وصارت في مرمى العنف والتنكيل، سواء من والدها أو زوجته، وتحولت إلى خادمة منزل، ولا تخلد للراحة إلا في ساعات النوم، وبعد خروج أبيها من عمله، تستيقظ على صرخات زوجة أبيها، وهي تجذبها من فراشها، وتدفع بها إلى الصالة، وتأمرها بتنظيف الغرف، ثم الدخول إلى المطبخ لغسل الأطباق، وتتوعدها إذا تباطأت في عملها، وتهددها بإبلاغ والدها بأنها سيئة السلوك، ولا تطيع أوامرها. وتكرر هروب نعمات من منزل والدها، واللجوء إلى أمها، بينما الأخيرة لا تقدر على إيوائها، وكلما رأى زوجها ابنتها، تحول المنزل إلى جحيم، وطلب منها أن تذهب إلى والدها، بل إنه هددها بالطلاق إذا أصرت أن تعيش الطفلة معها، وفي كل مرة ترضخ أمها لأوامر زوجها، وتطلب منها العودة إلى أبيها، ولا تجد أمامها مفراً من اصطحابها إلى هناك، والشجار مع زوجة طليقها، واتهامها بأنها تسيء لطفلتها، ولا تجد منها سوى السخرية، لأنها تخلصت من ابنتها من أجل زوجها الثاني. وفي ليلة الجريمة، انتزع والدها دميتها من يدها، وألقى بها على الأرض، وانهال بالضرب على طفلته، حتى سقطت مغشياً عليها، وزوجته تحرضه على مواصلة تأديبها، وتقول له بصوت كالفحيح: "لا يخدعك تمثيلها لابد أن تعلمها الأدب"، ولكن الأب توقف فجأة عن ضرب ابنته، ونظر إلى زوجته كمن أفاق من غيبوبته، وقال: "لو أنها ابنتك هل ترضين لها بهذا العقاب؟" ولم تستجب نعمات لمحاولات إسعافها، ولفظت أنفاسها الأخيرة. تراجعت كوثر مبتعدة عن زوجها المنهار، وهو يحتضن ابنته، ويهذي صارخاً: "أنا قتلت ابنتي" وتجمع الجيران أمام شقة جارهم محسن، واشتدت الطرقات على الباب، وتناثرت همهماتهم، وبعد لحظات شق طريقه بينهم، وهو يحمل جثة ابنته، ويهبط الدرجات في طريقه إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن جريمته. كان محسن ذاهلاً عما حوله، ويسير بخطوات بطيئة حاملاً ضحيته، ومن خلفه بعض جيرانه، وسرعان ما ظهرت والدة نعمات التي وصلها خبر وفاة ابنتها، وقد أطلقت صرخاتها المتلاحقة، واتهمت زوجها السابق بقتل ابنتهما، وأنها ستلقي به في السجن ومعه زوجته الثانية، التي حرضته على هذه الجريمة. انهارت أم نعمات باكية، وانتزعت طفلتها من الجاني بصعوبة، بينما ملامحه الجامدة لا تعبر عما يعتمل داخله من الندم، ولكنه أكمل سيره إلى قسم الشرطة، وتوارى المشهد عن أنظار كوثر المحرضة على القتل، واستشعرت القلق من تورطها في هذه الجريمة، وفكرت في الهروب من المنزل، ولكن إلى أين ستذهب، وهي لم تطلب من زوجها أن يقتل ابنته، بل تأديبها فقط، واستراحت لهذه الفكرة، وطمأنت نفسها أنها بريئة، وحتى زوجها لم يكن يتعمد قتل ابنته. تسارعت الأحداث، واستقرت جثة المجني عليها في عربة الإسعاف، وأصرت الأم على الذهاب مع ابنتها، واعترف الأب بجريمته أمام الضابط، الذي استصدر أمرا بمعاينة موقع الجريمة، والاستماع إلى أقوال الشهود، بينما انهار المتهم، وظل يهذي بأنه قتل ابنته الوحيدة، ولا معنى لحياتها بعد فراقها، ولا يكترث بأي عقاب يناله جراء هذه الجريمة البشعة. أحلام طائشة كانت الدمية مازالت ملقاة على الأرض، وأصداء اللحظات الفائتة، تخايل كوثر التي وضعت كفيها على وجهها، وأجهشت بالبكاء، وأدركت أن حياتها قد انتهت، بموت نعمات، ودخول زوجها إلى السجن، وأنها في انتظار مصير غامض، ولا تدري ماذا تخبئه لها الأيام القادمة، وهي مازالت في ريعان شبابها، وتملكها الندم على تحريض زوجها على ابنته، وأنها لم تكن تتمنى موت الطفلة، بل أن تذهب للعيش مع أمها، حتى لا تتحمل مسؤولية تربيتها، ولكنها لم تتوقع أن تتهاوى أحلامها في لحظة طائشة، دفعت ثمنها طفلة بريئة. عندما تقدم محسن للزواج منها، اعترضت أسرتها بأنه سبق له الزواج، ولكنها مثل أي فتاة تحلم بليلة الزفاف، ولم تجد مانعاً في قبوله، طالما يستطيع أن يوفر لها حياة مستقرة، بل إنها أصرت على الزواج منه، وقالت لأمها: "هذا زوج مناسب وسأكون سعيدة معه، لأنه شخص ناضج، وليس شابا صغيرا لا يقدر المسؤولية"، لكنها فوجئت بعد الزواج، أنه جلب طفلته لتعيش معها، ومن هنا بدأت المشاكل، بعد رفضه أن تذهب نعمات لتعيش مع أمها. انتبهت كوثر لطرقات الباب، وخشيت أن يكون الطارق زوجة محسن الأولى، وجاءت لتنتقم منها، ولكنها تبينت صوت أمها يأمرها بفتح الباب، ودخلت الأم ومعها ابنها وشقيقها، واستقروا على فكرة للخروج من هذا المأزق، وهي أن يذهبوا معها إلى قسم الشرطة، وهناك تدلي بأقوالها كشاهدة على الحدث، وتنفي تحريضها لزوجها على ارتكاب جريمته. وعندما همت كوثر بالذهاب مع أهلها، فوجئت بأقدام تصعد الدرجات، وقوات الشرطة تقتاد زوجها إلى داخل الشقة، ليمثل جريمته في مسرح الأحداث، وطلب الضابط المسؤول من الجيران الانصراف، وأبقى على المتهم وزوجته، ثم أمر بالقبض عليهما، والعودة إلى قسم الشرطة لاستكمال التحقيق في ملابسات هذه الجريمة، وتحويل المتهمين إلى سراي النيابة. اعترافات صادمة ساد الصمت في عربة الشرطة، بينما جلس المتهمان مكبلين بالقيود، وكلاهما تجول برأسه ذكريات شاردة، ويحدقان بلا معنى في وجوه أفراد الحراسة، وكأنها شخصان غريبان، جمعت بينهما المصادفة، ولا يمتان لبعضهما بصلة، ولكن شيئا واحدا يربط بينهما، هو أنهما اقترفا جريمة نكراء، لعب أحدهما دور المحرض، والثاني تجرد من الرحمة، وقتل ابنته الوحيدة، دون أن يرق قلبه لتوسلاتها، حتى صارت جثة هامدة، وفي لحظة مباغتة صرخ القاتل صرخة مدوية، أفزعت شريكته في القيود، وظل يهذي بكلمات غير مفهومة، والدموع تنسال من عينيه، وجسده يرتجف بشدة، وسط ترقب حذر من الحراس، أن تثور ثائرته ويلحق الأذى بزوجته التي صارت تهذي هي الأخرى: "أنا بريئة.. أنا لم أقتلها.. هو الذي قتلها". جلس المتهم أمام المحقق، ليدلي باعترافاته، ويقر بقتل ابنته عن طريق الخطأ، وأنه قصد تأديبها على سوء سلوكها مع زوجته، وقال إنه تزوج جارته منذ 14 عاماً، بعد قصة حب جمعت بينهما، وتقدم إلى أهلها للزواج منها، ولكنهم اشترطوا أن يدفع لهم مهرا كبيرا، ووعدهم أنه سيبذل أقصى طاقته ليحقق شروطهم، واستطاع أن يجد عملا إضافيا في أحد المحال بعد انتهاء عمله كموظف في شركة خاصة، وحانت لحظة السعادة المرتقبة، وأقيم حفل الزفاف في إحدى القاعات بحضور الأهل والأصدقاء، ولم تمض شهور حتى أخبرته زوجته بأنها حامل وحينها شعر بفرحة غامرة، وأنه سيصبح أبا، وخلال فترة الحمل كان يقضى طلبات زوجته، وعندما قدمت مولودته للحياة، قرر أن يسميها نعمات، وأن يوفر لها كل سبل الراحة والاستقرار. وبعد مرور عدة سنوات، حدثت خلافات بينه وزوجته، ودخل الشيطان بينهما، وكثرت المشاكل وطلقها، وتمسك بأن تعيش ابنته معه، ودارت مناوشات حول حضانة الطفلة، ولكن الأم تزوجت مرة ثانية، وارتضت أن تترك نعمات مع طليقها، والأخير تزوج من فتاة تصغره بعشرين عاما، لتجد الطفلة نفسها مع امرأة غريبة عنها، ولكنها خضعت للأمر الواقع، ووجدت أن قسوة أبيها عليها، أفضل من العيش مع زوج أمها. وأكد المتهم فى اعترافاته أمام النيابة: "زوجتى كانت بتشغل بنتى فى البيت، وكنت أقول مش مشكلة عشان تعلمها لأنه سيأتى يوما وتتزوج وتعول أسرة، وكانت بنتى بتشتكى منها لكن كنت أقف في صف زوجتي، وتوهمت أن طفلتي مدللة، ولابد أن أربيها، وبدأت أقسو عليها بعد هروبها المتكرر إلى منزل أمها، وفي كل مرة كنت أعطيها علقة ساخنة، حتى لا تفكر مرة أخرى في الهرب". وتوالت اعترافات المتهم: "كانت زوجتى تشكو لي دائما من أن نعمات طفلة غير مطيعة، وتتحدث معها بطريقه غير لائقة ولا تسمع كلامها، وحاولت إقناعها أنها مازالت صغيرة، ولكنها اتهمتني بأنني أدللها، وهذا سيفسد أخلاقها، واضطررت أكثر من مرة لعقابها، وأحيانا كنت أقيدها بحبل غليظ، وأتركها بدون طعام أو شراب، خصوصا عندما تكرر هروبها من المنزل". وأقر المتهم بجريمته، وأنه لم يتعمد قتل ابنته، ولكنه ضربها بعنف، بينما زوجته تحرضه على ضربها بقسوة، والطفلة تستعطفه تارة، وأخرى تقول إنها ستهرب من المنزل ولن يراها ثانية، حتى وقعت مغشياً عليها، وحاول إفاقتها دون جدوي، وأصابته صدمة شديدة، حين أدرك أنها فارقت الحياة، وأنه نادم على فعلته، ويستحق أقسى العقاب. واستمع المحقق لأقوال زوجته كوثر، التي نفت أن يكون لها علاقة بجريمة القتل، إذ قالت إنها أرادت من زوجها أن يؤدب طفلته فقط، ولم تحرضه على قتلها. وأكدت التحريات أن زوجة المتهم الثانية غير متورطة في مقتل المجني عليها، فأخلي سبيلها بضمان محل إقامتها، بينما تم حبس المتهم على ذمة التحقيق، تمهيداً لتقديمه إلى المحكمة.

مشاركة :