«التوحيد».. محبة الخالق ضالة المؤمن

  • 5/19/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: علاء الدين محمود مثل ميلاد الشعر الصوفي العذب الشفيف، لحظة تغيير حقيقي في الشعر العربي، فهو منعطف شديد الأهمية كان له تأثيره الكبير ودوره في رفد الشعر بأدوات وأساليب جديدة، فأصبح خطاب الشعر العربي أكثر عمقاً، بفضل الأسلوب الذي يقوم على التجريد، والرمزية، والتكثيف، وكذلك صارت الفلسفة والأفكار والإشراقات الجمالية، والمعاني البعيدة والقريبة تسري في جسد النص الشعري، كما حررت الأسلوبية الصوفية الشعر من البنى القديمة، وأطلقت العنان لخيال الشاعر. ولعل من أكثر هؤلاء الشعراء الذين عرفوا بغزير المقولات، وصناعة المفاهيم، ونظم الشعر العذب الفريد المحتشد بالقيم الرفيعة والإشراقات الروحية، عبد القادر بن أبي صالح، المعروف بعبد القادر الجيلاني، «470 - 561 ه»، وقد عاش في العصر العباسي. وفد يافعاً إلى بغداد عام 488ه، فتتلمذ على يد الشيخ أبي سعيد المخرمي، الذي كان على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وسرعان ما أصبح له شأن بين العلماء في سن مبكرة، فصار يعلم الناس وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وقد عرف بالصلاح، والورع، والعفاف، والزهد الشديد، وحمل عدداً من الألقاب مثل: «سلطان الأولياء»، و«باز الله الأشهب»، و«محيي الدين»، و«قطب بغداد»، فقد ملأ الدنيا، وشغل الناس، وقد شهد العديد من كبار العلماء على علو كعبه في العلم والفقه والورع والتقوى، ومن هؤلاء الحافظ بن كثير، الذي قال عنه: «كان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه زهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، وكان صالحاً وورعاً»، أما محيي الدين بن عربي، فقد ذكره بقوله: «كان عدلاً»، وقد ترك الكثير من المؤلفات والمصنفات مثل: «إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين»، و«آداب السلوك»، و«تحفة المتقين وسبيل العارفين». رؤية وقد اشتهر الجيلاني بقول الشعر الذي كان يحفظ ويحمل رؤيته وتصوراته، وكان نظمه رقيقاً جميلاً كنهر منساب ينهل منه السالكون، تحتشد فيه المعاني البديعة، والإشراقات النورانية الفريدة، والأسرار البعيدة، ويحمل وعظاً شفيفاً يلامس القلوب، وابتهالاً ونجوى وتضرعاً لله تعالى، وقد سرى شعره بين أتباعه فحفظوه ورددوه في خلواتهم ومناجاتهم على مر الأزمان، فقد كان الشعر وسيلته للتقرب إلى الله عز وجل، وأداته في الوعظ والإرشاد، فكان يدعو فيه للزهد والتقى، وتهذيب النفس وترويضها، وترك المعاصي والملذات،، ونجد أن كثيراً من الألقاب الصوفية التي حملها الجيلاني، جاءت من نصوصه الشعرية، ومن ذلك قوله: أنا البازي أشهب كل شيخٍ ومن ذا في الرجال أعطي مثالي درست العلم حتى صرت قطباً ونلت السعد من مولى الموالي نهر المحبة وتعد قصيدة «التوحيد» من أجمل الأشعار الصوفية، وقد حملت هذا الاسم لما ورد في مستهلها من كلمات تحمل معاني ومقاصد التوحيد، وقد أطلق عليها كذلك اسم قصيدة «أسماء الله الحسنى»، وذلك لأن كل بيت من أبياتها قد حمل اسماً من أسماء الله تعالى الحسنى، لذلك كانت لها مكانتها وسط المريدين، والمحبين، فظلوا يرددونها لما تحمله من قيم التوحيد، وذكر الله عز وجل، وعظيم نعمه على البشر، ويذكر فيها كذلك مبعث النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، كلحظة فارقة في حياة البشرية، مثلت مرحلة الخروج من الظلمات إلى النور، وكذلك تحمل تضرعاً شفيفاً لله عز وجل، ودعاء بالرحمة والقبول، وتقول أبيات القصيدة: شرعت بتوحيد الإله مبسملا سأختم بالذكر الحميد مجملا وأشهد أن الله لا رب غيره تنزّه عن حصر العقول تكملا وأرسل فينا أحمد الحق مقتدى نبياً به قام الوجود وقد خلا فعلمنا من كل خير مؤيد وأظهر فينا العلم والحلم والولا ما طالباً عزاً وكنزاً ورفعة من الله فادعه بأسمائه العلا وقل بانكسار بعد طهر وقربةٍ فأسألك اللهم نصراً معجّلا بحقك يا رحمن بالرحمة التي أحاطت فكن لي يا رحيم مجملا ويا مؤمن هب لي أماناً محققاً وستراً جميلاً يا مهيمن مسبلا عزيز أزل عن نفسي الذل واحمني بعزك يا جبار ما كان معضلا وضع جملة الأعداء يا متكبر ويا خالق خذ لي عن الشر معزلا ويا باري النعماء زد فيض نعمة أفضت علينا يا مصور أولا وهب لي يا وهّاب علماً وحكمة وللرزق يا رزاق كن لي مسهّلا وبالفتح يا فتاح نور بصيرتي وعلماً أنلني يا عليم تفضلا هي أبيات من المحبة الصافية الخالصة، همس شفيف من النجوى والدعاء، ودعوة إلى طريق الخير والحق والجمال، ولا يزال المسلمون يطيبون مجالسهم في الذكر بهذا المسك من العطر الشعري البديع، فيتذكرون الجيلاني، ومآثره الجليلة.

مشاركة :