إيدير موسيقي حفر الفن الأمازيغي في مسارح العالم | صابر بليدي | صحيفة العرب

  • 5/19/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لم ينتج كثيرا للحقل الفني، لكنه قدم خدمة جليلة للهوية الأمازيغية في بلده وفي عموم المنطقة المغاربية، فبأعمال قليلة استطاع إيدير الفنان العالمي الذي رحل عن عالمنا مؤخرا، نقل الهوية والفن الأمازيغي من طقوس القرية الجزائرية إلى العالمية، وحوّلهما إلى دبلوماسية ناعمة نقلت رسالة الأمازيغ لمشارق الأرض ومغاربها، بروائع فنية انصهرت فيها قيم الإنسانية والكلمة الصادقة والنغم الجميل. رحل إيدير تاركا وراءه فراغا كبيرا في الساحة الفنية الجزائرية والعالمية، بعد أن أسس لمدرسة فنية عالمية تعلم الأجيال كيفيات توظيف الفن في النضال الثقافي والهوياتي والسياسي، فيمكن لقطعة موسيقية أو أغنية أن تكون دعاية دبلوماسية ناعمة تحقق مردودا كبيرا لقضية ما، بينما تعجز الأجهزة الدبلوماسية التقليدية عن تحقيق أي شيء لها. لمن أغنّي؟ وفيما بكت الإنسانية جمعاء بمنظماتها وقادتها رحيل إيدير، فإن بؤر التطرف الديني نفثت سمومها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، للتشكيك في ديانته وانتمائه وأفكاره، رغم أن للرجل رؤية تنويرية في ما يتصل بالمعتقد، ذكرها في عدد من مداخلاته، فقد كان يرى نفسه مسلما يدافع عن التعدد والحريات والقيم والإنسانية. رفض إيدير الغناء في الجزائر منتصف تسعينات القرن الماضي، لما كانت البلاد تئن تحت حمام الدم والحرب الأهلية، احتراما لمشاعر عائلات ضحايا المأساة الوطنية من عناصر المؤسسات الرسمية للدولة، وللإسلاميين الذين زج بهم آنذاك في معسكرات الاعتقال بصحراء رقان وتمنراست. إيدير حمل في فنه وشخصيته أبعاد وتقاليد المجتمع الأمازيغي، وصنع منها أحسن وأكبر سفير للقضية في العالم. دافع عن الإسلاميين في ذروة الأزمة فناصبوه العداء ميتا وقال آنذاك قولته الشهيرة لوزير الثقافة حينها حمرواي حبيب شوقي، لما دعاه لإحياء حفلات في العاصمة، “لمن أغني؟ لعائلات الذين يدفنون أبناءهم وأقاربهم يوميا؟، أم للذين زج بهم في عمق الصحراء؟”. هكذا دافع إيدير عن قيم ومشاعر الإنسانية وحتى عن الذين ناصبوه العداء واتهموه بـ”الردة”، ولم ترحمه خلفيتهم حتى وهو ميت. إيدير على شح منتوجه الفني، عكس الكثير من الفنانين الآخرين في الجزائر وفي غيرها، إلا أنه عرف بثلاثة ألبومات فقط، أن ينقل القضية الأمازيغية من طقوس القرية الجزائرية المعزولة في عمق منطقة القبائل، إلى أضواء العالمية التي احتضنت رسائله الثقافية والهوياتية، وحقق للقضية التي ناضل من أجلها مكاسب كبيرة عبر كلمات صادقة ونغم جميل مفعم بقيم الإنسانية والانتماء الحضاري. وعلى النقيض من عدد من فناني القضية الأمازيغية في الجزائر، الذين اختاروا الصدام مع السلطة، من أجل افتكاك الاعتراف بالهوية، فإن إيدير أسس لنفسه ومدرسته منهاجا فنيا هادئا وناعما، ولم يشأ أن يعلق مع الآخر ربما لأنه يدرك أن موازين القوة غير متكافئة، لكنه بالمقابل حمل فنه وإبداعه إلى كبريات الصالات والمسارح العالمية، فعاد من هناك بأكبر اعتراف بالأمازيغية كمكون وبعد حضاري وثقافي، وهو ما لا يستطيع أحد أن يجحده الآن. وبين طقوس قرية آيت يعلى في عمق محافظة تيزي وزو بعمق القبائل الجزائرية، وبين شعبية حي ديار السعادة في العاصمة، وأروقة الحي الجامعي طالب عبدالرحمن في ضاحية بن عكنون، تفتقت موهبة إيدير الذي حمل في فنه وشخصيته أبعاد وتقاليد المجتمع الأمازيغي، وصنع منها أحسن وأكبر سفير للقضية في العالم. دافع عن الإسلاميين في ذروة الأزمة فناصبوه العداء ميتا. ولد حميد شريّط، وهو اسمه حسب شهادة الميلاد التي اطلعت عليها “العرب” في العام 1945، وتربى يتيم الأب منذ سنوات طفولته الأولى، ولم يتسن لنا معرفة مصدر حمله لاسم الشهرة، إلا أن الكاتب والإعلامي إيدير دحماني، يرى أن الاسم “إيدي” الذي يعني باللغة العربية معنى “عش”، والذي يطلق عادة في تقاليد المجتمع الأمازيغي على المولود الذي يولد بعد أخوه المتوفى، يوحي إلى أن الرجل لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، كغيره من الجزائريين الذين ولدوا أثناء الحقبة الاستعمارية، حيث كان الفقر والتهميش والمعاناة مرادفا لحياة الجزائريين آنذاك. لكن الأديب والوزير السابق للثقافة عزالدين ميهوبي، يقول في شهادة له عن الفنان “أول ما سألته، كان عن سرّ تسميته إيدير بدل حميد، فقال: ربما هو الخوف من الوالدين. فقد كانت فكرة أحد أقاربي الذي نصحني بأن أصدر ألبومي الأول باسم إيدير حتى يستمر. إيدير يعني الإنسان الحي، أو الذي على قيد الحياة. يعني أن أعيش أنا وأغانيَ دون علم والديّ. ولإيدير معنى آخر في لسان التوارق وهو الجذور”، وفي المحصلة فإن الرجل حمل في هويته الفنية معاني الحياة، الاستمرار والأصالة، وأن الاسم المذكور حمله مع بداية مشواره الفني. ويقول دحماني إن إيدير “تأثر كثيرا، خاصة من جهة الشعر والفلكلور بجدته وأمه، وأن أولى خطواته في الغناء كانت في الحي الجامعي طالب عبدالرحمن بالعاصمة، ضمن فرقة كانت تسمى مجموعة ‘لازوق’ بالأمازيغية، وتعني بالعربية ‘العلك”، وأنه عاش مع والدته في العاصمة، كما كانت هناك قرابة عائلية جمعته مع المناضل والأكاديمي مولود معمري. إيدير الذي لم يشأ أن يصطدم مع الآخر، كان يدرك أن موازين القوة غير متكافئة، فحمل فنه وإبداعه إلى كبريات الصالات والمسارح العالمية، ليعود بأكبر اعتراف بالأمازيغية كمكون وبعد حضاري وثقافي أما ميهوبي، فيذكر في شهادة نادرة “بعيدا عن حديث المعتقد الروحي وانتماء الهويّة وحديث مواقع التواصل التي تنبشُ في سيرة الفنان المرحوم إيدير، سأكلمكم عن جوانب من حياة الإنسان الذي عرفته، ففي أكتوبر العام 2015، التقيت إيدير لأول مرة في مطعم البستان، على هامش صالون الإبداع الذي ينظمه ديوان حقوق المؤلف كلّ سنة. أعرفُه ولا يعرفني. كنا ستة مدعوّين على الطاولة، وتشعّب الحديث في قضايا السياسة والفن والواقع الاجتماعي، وكنتُ بين الحين والآخر أذكر اسم فنّان أو أغنية أو حدث ثقافي. بينما كان حديث إيدير لا يخلو من النّكت والتعليقات الذكية العابرة، واضطررت للمغادرة مبكرا”. ويضيف “في اليوم الموالي ذكر لي واحد من الحاضرين، أنني بمجرد أن خرجت، سأل إيدير من يكون هذا السيّد الذي كان معنا؟ فانفجروا ضاحكين، هل أنت جاد يا حميد؟ قال: نعم، فقالوا له هذا عزالدين ميهوبي وزير الثقافة. فراح يضحك وهو يردد، هذا مستحيل. ساعتان وهو بجانبي ولم أكلف نفسي التعرّف عليه. وعندما التقيته ثانية، قال لي ضاحكا، لم أكن أعرف أنني أجلس إلى جانب وزير ثقافة النظام”. واسترسل إيدير يقول “أعجبتني بساطتك وتواضعك وثقافتك وتفتحك. يبدو أنني كسبتُ صديقا، وجلسنا نتحدث في أمور كثيرة. كان يُحدّثني، وكأنه يعرفني منذ أربعين عاما. أنا كنتُ أعرف إيدير وروائعه التي لن تموت في قلوب النّاس. فقد نشأ عليها جيلنا، وبقيت نوتةُ أفافا ينوفا، أبحري، أواه أواه، واسندو، تهزّ المشاعر وتبثُّ المتعة عند سماعها”. وللفنان الراحل باع طويل مع الموروث الفني المحلي، الذي كانت تتداوله نسوة القرية في المناسبات والأعراس، وسمعه عن قرب من أمه وجدته، فقد قال في حوار صحافي في منتصف تسعينات القرن الماضي، للإعلامي والفنان محمد زاوي “وأنا صغير، كنت أجاور الجدة وهي تمخض اللبن ‘اسندو’ وتدندن بكلمات علمت بعد زمن، أنها صلوات على النبي، ودعوات بالرحمة لعمي الشهيد، ولعودة أبي من المهجر، وفي المساء بعد العشاء تروي لنا جدتي حكاية الرجل الذي غادر القرية وسجن نفسه في كوخ في الغابة، تزوره ابنته لتعطيه الطعام فيطلب منها تحريك يديها ويسمع صوت أساورها، ويتأكد أنها هي ويفتح الباب لأنه خائف من وحش الغابة”. ويضيف زاوي “كبرت وسمعت إيدير يغني ‘أسندو’ فتذكرت جدتي، ودندنتها المتحسرة على ابنها الشهيد وغربة أبي. ثم سمعته يغني ‘أفافا ينوفا’، فتذكرت حكايات جدتي في ليالي الشتاء على ضوء المصباح ورائحة الحطب المحترق في الكانون، دندنة جدتي وهي تمخض اللبن وحكاياتها في ليالي الشتاء. هناك في جبال إيت يعلى كانت الانطلاقة نحو العالمية. دندنة جدتي. رددها ورقص لها الملايين من البشر من مختلف أصقاع الدنيا ومن مختلف الأديان والمعتقدات والثقافات واللغات”. وفاة إيدير خسارة للفن الجزائري والأمازيغي، حسب المثقفين الجزائريين، لاسيما وأن للرجل طريقة فريدة في النضال من أجل الهوية، وهي نشر الفن الجميل والموسيقى الجميلة وقصائد الحب والسلام. وبرحيله تسقط إحدى أعظم وأعتى أشجار تلال جرجرة، وسيبقى صداها يرن في أفئدتنا سنوات طويلة.. لم يكن إيدير مغنيا عاديا، إنما كان منذ 1973 مثل روح طيبة سبرت أغوار النفس الأمازيغية كما يفعل صانع الذهب، بدقة وصبر وأعطى للعالم جواهر ستبقى خالدة بقاء الذهب الأصيل. ستبكيه جرجرة عن بكرة أبيها، وسيحزن لموته أطلس المغرب وصحاريه، وجبل نفوسة، وبطحاء جزر الكناري وواحات تونس، وكل من استمتع بفنه النقي.. الجزائر تفقد واحدا من رموز الفن الجميل وأحد أعمدة الأغنية القبائلية، وعزاؤنا أنه غادر هذه الدنيا طيبا لم يدنس كرامته، وترك لنا إرثا سيفتخر به كل محب للفن الأصيل وكل غيور عن أصله بلا عنف وبكثير من الحب. اسم "إيدير" الذي يعني الإنسان الحي، يقول عنه صاحبه إنه استخدمه بسبب "الخوف من الوالدين". ويشرح أن الفكرة كانت فكرة أحد أقاربه الذي نصحه بأن يصدر ألبومه الأول باسم إيدير حتى يستمر تكررت زياراته إلى الجزائر في السنوات الأخيرة، وكان همّهُ الأساس هو اقتناء بيت بالعاصمة، لأنّه ربّما بدأ يشعر بأن الغربة تلقي بأثقالها عليه، خاصّة مع متاعبه الصحيّة. ويروي الوزير ميهوبي عن ذلك “قلت لإيدير ما رأيُك في حضور حفل بأوبرا الجزائر؟ فرحب بالفكرة، واعتبر وجود قاعة أوبرا خطوة كبيرة في تعرف الجزائريين على الموسيقى العالميّة، خاصة مع وجود فرقة سيمفونية اكتسبت تجربة في التعاطي مع الأعمال الكبرى. وعند وصولنا، كان الحفل قد ابتدأ بقيادة المايسترو أمين قويدر، مع أوبرا ترافياتا، للمؤلف الإيطالي فيردي، حيث تمّ الترحيب بإيدير، وصفّق له الجمهور كثيرا، واحتفى به في نهاية الحفل، فحاصرته العائلات مرحّبة به، مع أخذ توقيعه وصور معه. ولاحظتُ أنّه شعر بسعادة بالغة، إذ كان متخوّفا من أن أربعة عقود من الغياب ستمحو اسمه من ذاكرة النّاس. أو ربّما تنسيهم ملامح وجهه. فلم يعد إيدير ذلك الشاب ذا الشعر الطويل والنظارات الواسعة، لكنّه اليوم يمشي ببطء، بقبعة رمادية ونظارات شفافة. لكن دون أن يخسر ابتسامته التي لا تعرفُ التّكلُّف”. جنازة بلا مشيعين ويتابع ميهوبي “في اليوم التالي اصطحبته إلى الصالون الدولي للكتاب، وفي الطريق راح يكلّمني عن الفترة التي درسَ فيها الجيولوجيا، وكيف أنه قاد فريقا من الباحثين بمنطقة بوسعادة، وشرع يستحضر ذكرياته مع أهلها الطيبين، الذين لم يبخلوا عليهم بالماء والكسرة والقهوة. وراح يشرح لي الطرق التي كانوا يستخدمونها في الحفر والتنقيب وتحليل المواد، والوصول إلى النتائج العلمية المطلوبة. قلت له لماذا لم تواصل البحث وقد أنهيتَ دراساتك العليا؟ أجابني، كعادته بأسلوبه المرح، حتى الموسيقى فيها جيولوجيا. أنت تبحث في أعرق الإيقاعات للوصول إلى إيقاع جديد، فلو التحقتُ بشركة سوناطراك، ما ولدت اسندو”. وشاءت الأقدار وجائحة كورونا، أن يوارى الفنان العالمي الثرى في باريس، بعيدا عن أهله ومحبيه في الجزائر والعالم، فبسبب حظر الطيران والإجراءات الصحية الاحترازية نتيجة تفشي الوباء، أعلنت عائلته عن جنازة محدودة لفقيد الفن الأمازيغي ومناضل الهوية، واعتذرت للجميع عن الإجراء امتثالا لتدابير الوقاية الصحية، لينام إيدير في قبره بعيدا عن قريته وموطن أهله وأجداده، ويستمر في غربته رغم أن العالم يرحب به أينما حل أو ارتحل.

مشاركة :