توجهت الحكومة المصرية نحو الأعمال الدرامية لتصويب الأفكار المتطرفة، بعد أن فشلت وسائل الإعلام التقليدية في القيام بهذه المهمة، ولم تتمكن من مجاراة سيل التأويلات المغلوطة للدين التي اعتمدت عليها التنظيمات الإرهابية لتثبيت أقدامها في المجتمع. وظفت الجهات المشرفة على الإنتاج السينمائي والدرامي في مصر إمكاناتها لتقديم أعمال ضخمة من أجل تصحيح الأفكار الدينية المغلوطة، وتعزيز صورة ذهنية عن الاهتمام بالوطن، مستفيدة من إقبال الجمهور على الموسم الرمضاني. وحضرت في هذا الموسم على الشاشات المصرية، الأعمال التي تحمل صبغة فكرية وسياسية بدءاً من مسلسل “كلبش” بأجزائه الثلاثة، وصولا إلى مسلسلي “الاختيار” و”ليالينا 80”. ويرى العديد من خبراء الإعلام، أن الدراما أضحت رأس الحربة في حرب تصحيح الأفكار، وأن الحكومة المصرية وجدت أن الإعلام بشكله الحالي تعَرض لجملة من الهزات أفقدته القدرة على التأثير، وانخفضت معدلات مشاهدته، بحسب ما أكدت تقارير عديدة، وأدركت الحكومة أن توجيه ثقلها المادي يأتي بثمار إيجابية عبر الدراما وليس الإعلام. وركزت الكثير من وسائل الإعلام على الترفيه والتسلية، وفقدت جزءاً كبيراً من شعبيتها ودورها كأداة لإعلام المواطنين وتوعيتهم، وتصدرت مواقع التواصل الاجتماعي هذا الدور، وأضحت في غالبية الأحيان رد فعل على ما تجري إثارته على المنصات الإلكترونية، ما جعل اتخاذها زمام المبادرة لتصحيح الأفكار المغلوطة يواجه بحملات تشويه من قبل المعارضة. لم تطرح وسائل الإعلام نقاشات واسعة من الممكن أن تشكل مواجهة حقيقية للأفكار المتطرفة، ويرجع ذلك إلى أن المؤسسات الدينية والثقافية لم تقم بأدوارها المنوطة بها، وبالتالي فإن الإعلام لم يجد الأشخاص المناسبين الذين يمكنهم تصدره ومخاطبة الجمهور، علاوة على عدم وجود مساحات حركة واسعة للإعلام التقليدي، ما جعله يركز على أساليب الحشد المباشرة دون أن تكون هناك مواجهة فكرية ثرية تؤثر في جموع المواطنين. واصطدمت بعض البرامج التي حاولت تصويب الخطاب الديني وتجديده بمشكلات مع مؤسسات دينية عدة، وتعرضت لانتقادات من قبل قطاع كبير من الجمهور الذي نظر إليها باعتبارها تحاول استغلال الدين إعلاميا لخدمة أجندة سياسية. الدراما من أهم الأدوات المباشرة للتواصل؛ فهي تجمع بين الترفيه وغرس القيم والنماذج الإيجابية في ذهن المشاهد وكان من نتائج ذلك صدور حكم قضائي بحبس الباحث إسلام البحيري مقدم برنامج “مع إسلام” بفضائية “القاهرة والناس” بتهمة ازدراء الأديان قبل خروجه بعفو رئاسي. ويذهب البعض من الخبراء إلى أن الدراما قد تلعب دوراً تمهيدياً يساعد الإعلام التقليدي في أداء مهامه بصورة أكبر في مواجهة الأفكار المتطرفة، وأن الحبكات التي يعيش فيها الجمهور في أي عمل فني تساهم في تمكين الإعلام من البناء عليها لاحقا. وترى ليلى عبدالمجيد، أستاذة الإعلام السياسي بجامعة القاهرة، أن الدراما تعد من أهم الأدوات المباشرة للتواصل مع الجمهور، لأنها تجمع بين عاملي الترفيه وغرس القيم والنماذج الإيجابية في ذهن المشاهد، وتأثيرها لا ينتهي بانتهاء فترة العرض، لكن يضفي صفة الاستمرارية التي يمكن مشاهدتها في أوقات أخرى، وتترك بصمة في عقل وفكر المشاهدين، وهو ما يوصف بالإعلام النموذجي الذي يقدم رسالة مركبة طويلة الأمد. ويتفق الكثير من خبراء الإعلام على أن الدراما تستطيع نسج خطابات شبيهة بتلك التي توجهها التنظيمات المتطرفة إلى المواطنين العاديين، وتقوم في الوقت ذاته بدحضها بردود مقنعة لدى متلقي الرسالة الإعلامية، ما يجعلها أكثرة قدرة على الوصول إلى النطاقات الشعبية التي تستهدفها الحكومة في حربها ضد المتطرفين. وأضافت عبدالمجيد في تصريح، لـ”العرب”، أن العودة إلى إنتاج الأعمال الدرامية وتمويلها رسميا أعادت الاهتمام بالأعمال التي تحقق أهدافا توعوية بعيدة عن المكسب المادي المباشر، غير أن الأمر بحاجة إلى خطة ورؤية إعلامية واضحة لتطوير جميع أدوات التوعية وألا يقتصر الأمر على الدراما فقط بحيث تجري إتاحة التواصل الفعلي بين الجمهور المتلقي والقائم على عملية الاتصال. وتكمن مشكلة الإعلام المصري في القائمين على الاتصال بسبب عدم ثقة الجمهور في الكثير من الوجوه الإعلامية التي تحضر يومياً عبر برامج الـ”توك شو”، في وقت تحاول فيه القنوات الفضائية إحداث تغييرات شكلية عبر الاستعانة بوجوه جديدة ما زالت في مرحلة بناء قاعدة شعبية لها لدى الجمهور، ويصعب الاعتماد عليها كأداة لتصحيح الأفكار. وبرأي خبراء إعلام، يضع الاعتماد على الدراما الإعلاميين في مأزق بعد أن تصدروا المشهد طيلة السنوات الماضية، منذ أن تخلت الدولة عن دعم الدراما والسينما مطلع الألفية الجديدة، وذلك من شأنه أن يضاعف أزمات الإعلام لأن الاهتمام الحكومي قد يكون موجهاً بالأساس للإنتاج الدرامي. وبدأت الجهات الحكومية المشرفة على ملف الإعلام في مصر إدخال فنون إعلامية مختلفة على المضمون الذي تقدمه إلى الجمهور، إذ جرى الاهتمام بشكل أكبر بالأفلام التسجيلية التي أنتجتها فضائيات مصرية عديدة، وآخرها فيلم “قطب” الذي أنتجته وحدة الأفلام التسجيلية بفضائية “دي أم سي”، وتناول مراحل من حياة المنظر الإخواني سيد قطب عبر كتاباته في الصحف المصرية. ويأتي الرهان على الدراما بعد أن واجهت مصر حرباً من قبل وسائل الإعلام المناوئة للنظام الحاكم، والتي تبث من تركيا وقطر، وعملت على إنتاج أفلام تسجيلية للترويج لمشروع تنظيم الإخوان وحلفائه في المنطقة عبر إسقاط هيبة الدولة، لذلك فالرد المصري ينسجم مع السياقات التي من الممكن أن تدحض هذه الأفلام، بطريقة عكسية، من خلال تفكيك خطابها. غير أن الصحافي عصام كامل، رئيس تحرير صحيفة “فيتو” الخاصة، يرى أنه لا يمكن إغفال أهمية الأدوار الأخرى للإعلام المباشر الذي استطاع أن يحقق نجاحات سابقة من الممكن تكرارها حالياً، لأن سلسلة التحقيقات والحوارات التي أجراها الصحافي المخضرم مكرم محمد أحمد في تسعينات القرن الماضي مع قادة الجماعات الإسلامية كانت مكملة لأعمال درامية عديدة قدمها المؤلف وحيد حامد في تلك الفترة. وأوضح لـ”العرب”، أن خطط مواجهة الأفكار المتطرفة ما زالت بحاجة إلى إجراء تعديلات عليها لأن دخول الأعمال الدرامية لن يلغي حالة الحشد المباشرة التي ما زالت تتبناها، والأمر بحاجة إلى أعمال فكرية وليس شحن المصريين الذين قد تكون في أذهانهم المئات من الأسئلة دون إجابة، والإعلام وحده الذي يستطيع القيام بهذه المهمة.
مشاركة :