نحمد الله تعالى حمد الشاكرين، ونؤمن به إيمان الموقنين، ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وخالق السموات والأرضين، ومكلف الجن والإنس والملائكة المقربين أن يعبدوه عبادة المخلصين، فقال تعالى: (وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة آية : 5]. فما لله إلا الدين الخالص المتين، فإنه أغنى الأغنياء عن شركة المشاركين.والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين، وعلى جميع النبيين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد: فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان، وأنوار القرآن، أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبًا مغمورًا: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) [ الفرقان ، آية 23].ولما كان صوم رمضان من أعظم أركان الإسلام، فقد جعله الله مظهرًا من مظاهر مراقبته عز وجل في السر والعلن، إذ به يتحقق المعنى العظيم الذي تقبل به العبادات، وينجو به المرء من عظيم المدلهمات، وينال به المسلم أعلى الدرجات، ويرتقي به أعلى المقامات، فبالتوجه إلى الله عز وجل وحده بالعبادة ابتداء وانتهاء، يتحقق معنى الإخلاص.ولما كان الصوم عبادة خفية، لا يطلع على حقيقته إلا الله، إذ هو سر بين العبد وربه، يأتي الإخلاص ليصفي الصوم من كل شائبة تشوبه، إذ مدار الإخلاص قائم على أن يتمحض العمل لله عز وجل طاعة له، وامتثالًا لأمره، وطلبًا لرضاه، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» [رواه البخاري ومسلم].وفي رواية للإمام أحمد في مسنده : «يَقُولُ: عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي، فَالصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» [مسند الإمام أحمد].وقد تناول العلماء الكلام على هذا الحديث ليتجلى كون الصوم شعار الإخلاص، قال الحافظ ابن حجر معلقا على الحديث: "وقد يفهم من الإتيان بصيغة الحصر في قوله إنما يذر الخ، التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاص به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتخمة لا يحصل للصائم الفضل المذكور، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القويّ، الذي يدور معه الفعل وجودًا وعدمًا، ولا شك أن من لم يعرض في خاطره شهوة شيء من الأشياء طول نهاره إلى أن أفطر ليس هو في الفضل كمن عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه" أ.هـ.[فتح الباري لابن حجر 4/ 107].وفي الحديث أيضا: «كُلُّ عَمَلِ بنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، وَالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِه».وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: «وَالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِه» مع أن الأعمال كلها له، وهو الذي يجزئ بها، على أقوال: أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره. فأعمال البر كلها لله، وهو الذي يجزي بها فنرى -والله أعلم- أنه إنما خص الصيام؛ لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب، ويؤيد هذا التأويل، ما روي عن النبي: «لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاء». [رواه البيهقي في شعب الإيمان]، وهذا لو صحّ لكان قاطعًا للنزاع، لكن إسناده ضعيف، كما قال الحافظ في الفتح .وقيل: لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس.قال القرطبيّ: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يَطَّلِعُ عليه بمجرّد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: «يَدَع شهوته من أجلي».وقال ابن الجوزيّ: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يَسلَم ما يظهر من شَوْب، بخلاف الصوم، وذلك أن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم، فإن حال الممسك شبعًا مثلُ حال الممسك تقرّبًا؛ يعني في الصورة الظاهرة.كما أن الصوم لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم، ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء قد يدخلها بمجرّد فعلها، وهذا معني النفي في قول النبى: «لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاء».ويأتي قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ-: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ...] [رواه البخاري ومسلم]، ليقرر أن الصوم هو شعار الإخلاص عندما يقع موقعه الصحيح في قلب المسلم.قال ابن بطال :قوله: «إِيمَانًا» يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: «وَاحْتِسَابًا»، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب، وصدق النيات، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». [رواه البخاري ومسلم].وقال بعض أهل العلم: «وَاحْتِسَابًا» أي: عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه.فإن قيل: كل من اللفظين يغني عن الآخر (يقصد إيمانا واحتسابا) إذ المؤمن لا يكون إلا محتسبًا، والمحتسب لا يكون إلا مؤمنًا، فهل غير التأكيد فيه فائدة أم لا؟فالجواب: أن المصدق للشيء ربما لا يفعله مخلصًا بل للرياء ونحوه، والمخلص في الفعل ربما لا يكون مصدقًا بثوابه وبكونه طاعة مأمورًا به سببًا للمغفرة، ونحوه. فالواجب على المسلم وهو يؤدي شعيرة صوم رمضان، أن يستحضر عظمة الله في قلبه فيقدره حق قدره ، فيصوم المسلم صوم خصوص الخصوص.كما لا يليق بالمسلم العاقل الفَطِن أن يكون سببًا في ضياع ثواب صومه بعد جهاد طويل، وامتناع عن الشهوات في نهاره، فالله عز وجل هو أغنى الأغنياء عن الشرك.يقول ابن القيم رحمه الله في الفوائد: العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله، ولا ينفعه.وعلى الأمة في هذا الشهر المبارك وفي ظل الكبوة الشديدة، والبلاء العظيم الذي تعيشه، وهي تستجلب سبل النجاة أن تستحضر حديث: «النفر الثلاث الذين آواهم الغار»، فما كان من سبيل للنجاة إلا استحضار معنى الإخلاص في عمل من أعمالهم، والملاحظ أن النجاة لم تكن بإخلاص وعمل واحد منهم فقط، وإنما كانت النجاة بعمل الجميع، فلم يفتح باب الغار بفعل أحدهم، وإنما كان عمل كل واحد منهم سببًا في حل جزء من المشكلة، وبمجموع عملهم المقترن بالإخلاص جاء الفرج، فليخلص كل واحد منا في عمله ليكون سببًا في تفريج الكرب، ورفع البلاء.أسأل الله عز وجل أن يغفر ذنوبنا، وأن يفرج كروبنا، وأن يرزقنا صوم رمضان وقيامه إيمانًا واحتسابًا، وأن يتقبله منا، وأن يجعلنا فيه من أهل الفوز والرضوان، والعتق من النيران. اللهم آمين.وصل اللهم وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
مشاركة :