رمضان في وجه الجائحة - د.فوزية أبو خالد

  • 5/20/2020
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

لكل المسلمين رمضان واحد هو الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو العمل الوحيد الذي ترك الله بيده وحده تقدير الجزاء عليه إلا أن لكل مجتمع من المجتمعات المسلمة رمضان خاصاً بها في تفاصيل نهاره ولياليه من لحظة الإمساك التي يشترك الجميع على تبيّن خيطها الأبيض من الأسود إلا أنهم لا يشتركون في طقوسها إلى لحظة الإفطار التي يتفق المسلمون أيضاً على موعدها مع اختلافهم الواسع في كيفية حياتهم ما قبل وما بعد ذلك الموعد الذي لا يخلفه أحد منهم. من حسن طالعي أنني صمت في عدد من الأمكنة وتعلّمت أو على الأقل أطلعت على العديد من تلك الاختلافات. صمتُ في مصر وفي لبنان، حيث رمضان يتعدّد في المجتمع الواحد من رمضان السمت والستر واللقمة المغموسة بتعب يدعو الصائمين للنوم باكراً بعد صلاة العشاء والتراويح مباشرة إلى رمضان الصخب والبذخ والإفراط في الطعام والشراب والسهر لوجه الفجر, وخيام «الشيشة» و»الأنس» وما إليه من سلوكيات تجرح سمت التقوى في رمضان وهو ما يمكن تسميته برمضان الاستهلاك ورمضان السياحي. صمتُ في بريطانيا، حيث حضرتُ هناك أكثر من رمضان إبان عملي على أطروحة الدكتوراه، فكان رمضان العمل بالمكتبة أو بين المحاضرات من شروق الشمس إلى الغروب دون شعور بجوع أو عطش، رمضان البساطة في الوسط الطلابي الإسلامي ووسط الجاليات المسلمة والعربية ولا زلتُ أذكر مع كل رمضان طعم لوعة فقدان محمد الدرة بيد الغدر الإسرائيلي التي دارت كأسها بمرارات مؤلمة على جميع شفاه الطلاب العرب والمسلمين إبان النقاشات الطلابية المعتادة على موائد الإفطار في مطعم «يافا» العربي ومطعم «سنم» الهندي, وكانا المطعمان الوحيدين اللذين لا يقدِّمان خموراً فاستحقا ثقة الطلاب المسلمين الرمضانية. وإن كان محفوراً في الذاكرة غالبية الأيام الرمضانية المتقشفة لتلك الفترة التي كنتُ أفطر فيها على حبات تمر وحفنة أرز أسمر وقلبي يتفطّر على فراق قلبي لقلبي الذي بقي في الرياض. في أمريكا الشمالية في كل من أيوى سيتي وبورتلاند أوريجن ونيويورك وفلوريدا جربت صياما ًتراوح بين التصالح مع الغربة بوجود طيف من الأحباب وبين تجريح الغربة لروحي ولصيامي بتباريح الأشواق إلى رمضان بلادي. فليس في رأيي من مثيل ولا من معادل وجداني للصيام في كنف أمي وأبي وأشقائي ببيت الأسرة عندما كنتُ طفلة ويافعة وفي كنف أبنائي وأحفادي وأهلي وجيرتي وصديقاتي وفي كنف وطني حين أصبح بيتي أنا هو بيت الأسرة. كنتُ قد سجَّلت في عدد من المقالات عبر العمر رمضان طفولتي وصباي الأول رمضان البراءة والشقاوات النقيّة والتباري في الصيام أيام المدرسة, رمضان مراسيل الطعام بين الجيران ولو حلا ما يُسمى «بمخباة الفقير». ولن أنسى ما حييت لمة المغرب العائلية على مائدة الإفطار ومعنا الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-. ولن أفرط ما عشتُ في ذكريات رمضان, رمضان التقاء الأرواح في صلاة التراويح واحتفالات قرقعان وأم حديجان في ليالي رمضان. كما سيبقى من أجمل سجلات ذاكرتي رمضان اللعب برمال أبحر والركض بين أمواجه أطفالاً وكباراً من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وكأن كل سكان جدة قد قرّروا أن يتركوا بيوتهم ويقضوا صباحهم وضحاهم على الشاطئ في مشهد مهيب لكبار وصغار يسرحون ويمرحون على طول الساحل وهم صيام. وسيبقى من أيقونات القلب رمضان التهجد واسترحامنا للأهل أن يصحبونا معهم. وستظل -بإذن الله - صورة نادرة لكنها علامة فارقة من علامات المجتمع السعودي على محافظته صورة خروج النساء آمنات من بيوتهن بعد منتصف الليل بساعة وإيابهن قبل الفجر بساعة ذهاباً وإياباً مشياً على الأقدام إلى ومن مساجد الحارة مثل مسجد الجوهرة البابطين في حي الربيع ومسجد ابن باز في حي الغدير، وكل هذا في الرياض، وقس عليه في كل أحياء المدن والقرى بالمملكة بقصد صلاة العشاء والتراويح في أول المساء وصلاة التهجد آخر الليل. أما ما هيَّج تلك الذكرى وحرَّك كاميرا الذاكرة فهو الحنين المبرح إلى رمضان بلادي من احتفائية رؤية الهلال ومدفع الإفطار إلى رائحة الهيل وروح الموز و»دخون» مابين «عشاوين» وصوت ترتيل القرآن ينبع من محراب المساجد ويستقر في الحنايا, خاصة وقد شارف شهر رمضان على الوداع ولا تزال وحشة الجائحة تلفنا جميعاً وتلفني شخصياً في غربة غير مسبوقة في العلاقة بشهر رمضان. لقد هلَّ رمضان هذا العام والعالم يعيش عزلة ضارية تتراوح بين ترف الملل والحبوس الأسرية الفارهة وبين ضيق البيوت وضيق ذات اليد, بين توجّس المرض وبين تربّص الموت والخوف من مجهول، وكأن الكون كله قد صار ريشة في مهب عاصفة عاتية أسمها كوفيد19 . جاء رمضان بروحه المتسامية فوجد فينا ومنا أرواحاً معقوفة كعلامات استفهام, وجد أجساداً متباعدة وقلوباً ظمأى وضمائر قلقة، فكان لبعضنا وحياً بعد انقطاع وكان لبعضنا قطراً بعد انحباس.. فالحمد لله على نعمة رمضان ولا أدري كيف سنتحمّل المزيد من حبوس كورونا إذا غادرنا رمضان بأنسه الرباني العميق ليتركنا نعود لنهارات مطفأة وليال يتيمة - لا سمح الله. * * * مشاركة وجدانية بقلوب يعتصرها الألم، إلا أنها راضية بقضاء الله وقدره وموقنة {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، أبتهل للعلي القدير اللطيف الخبير أن يجلِّل الشاب اليافع الابن المهند بن ماجد الحقيل بأجنحة رحمته ويكرم مثواه في جواره العزيز بمستقر رحمته, وأسأل الله أن يلهم والدته ووالده وأخواته وإخوانه وكافة أسرته الصبر ويحسن عزاءهم ويعظم أجرهم. * * * أدعو الله أن يرحم شهداء الجائحة، أولئك الذين لم يمر يوم لما يقارب شهرين دون أن تودع البشرية عدداً منهم عبر القارات، وأدعوه أن يصبّر أسرهم والإنسانية جمعاء على هذا الفقد الموجع {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. رفع الله عنَّا جميعاً ورفع عن الأرض قاطبة هذا البلاء غير فاقدين ولا مفقودين.

مشاركة :