كلّما تقدّم العلم وازدادت قدرة الإنسان على قهر المجهول، ازداد وعيه بما لا يعلم، وكلما اتسعت دائرة المعرفة أمامه، ازدادت اتساعا دائرة ما يدرك أنه لا يعرفه، فما تطوّر المعرفة إلا وسيلة كي نعرف منتهى جهلنا، ولكنه جهل نسبي، لا يستوي فيه كل الناس، فشتان بين من يعرف أنه جاهل، ومن يجهل أنه جاهل. يمتاز الإنسان بمعارفه، ولكنها ليست معارف فطرية، بل هي مكتسبة، إذ يفني سنوات من عمره كي يتملّكها، بصعوبة في العادة، وضدّ إرادته في أغلب الأحيان، لأن معرفة الشيء لا تخلق الاطمئنان بالضرورة، والإنسان العادي يفضّل أن يكون مرتاح البال، خالي الذهن، على أن يجدّ ويشقى، إلا في حال تأمين وجوده. وقد يجد تلك الراحة إذا أسدل على وعيه ستائر الجهل، واكتفى بما يضمن عيشته، لأنّه يؤثر حياة الدّعة والمتع واللامبالاة على حياة يسهر خلالها الليالي الطوال بحثا عن ضالّة قد لا يعرف بالضبط ما هي، أو لا يتبيّن شروط بلوغها. بيد أنه لا يملك غريزة متطورة، كما هي الحال عند الحيوان، كي يهتدي إلى مكانه في الطبيعة بيسر ويتجنّب المخاطر، فالحيوان يشمّ ما سوف يكون طعامه دون صعوبة تذكر، بينما يضطر الإنسان إلى أن يجرّب، ويتثبّت، ويتذكّر، لأنه يشتغل وفق سلسلة أخطاء تسجّل في ذاكرته باطّراد، فيستحضرها لتجنب تكرارها، والاستفادة منها لتجنب الوقوع في أخطاء أخرى. وذلك ما يدفعه إلى الأخذ بأسباب المعرفة، ولو على مضض. الجهل والمعرفة وليس جهل العوامّ كجهل العلماء والمفكرين، فالأوّل يخص أناسا تسعى في الأرض بغير غاية، وتعزو ظواهر الكون إلى قوة إلهية، لا شأن لها بها، والجهل هنا هو البون الفاصل بين الواقع وتصوّرنا إيّاه. هذا البون قد يكون ناجما عن فكرة مسبقة أو وهم محض، بينما الثاني هو من سمة الباحثين عن الحقيقة، حيثما كانت، يقضّون أعمارهم بحثا عنها، متوسّلين بما حازوا من معارف السابقين، وبما أوصلهم فكرهم إلى ابتكاره. والجهل في هذه الحالة قد يتولد عن خطأ منطقي، أو انحراف الفكر أو عدم المعرفة. في استعارة الكهف، يقدّم أفلاطون تصوّرا لطبيعة الإنسان في علاقته بالمعرفة والجهل، فمسعى الفيلسوف الباحث عن الحقيقة يتمثل أولا في أن يعي جهله، بوضع مسافة بينه وبين الأفكار المسبقة، ثم يتعلم التمييز بين ما هو واقعيّ وما هو وهميّ، ليسمو تدريجيا نحو عالم الأفكار باستعمال المنهجية الجدلية. وعندما يصف، في الكتاب السابع من “الجمهورية”، الكهف الذي جعله استعارة لمبدأ المعرفة، يضع الجهلة في وضعية سجناء، مقيّدين في عمق الكهف، وقد حكم عليهم ألا يروا إلا ظل الواقع، دون أن يعرفوا إن كان ذلك هو الواقع. هم في حالة جهل، سجناء أوهام لا يستطيعون تجاوزها، بسبب ذلك الجهل. أي عدم معرفة المرء العالم أو الأفكار معناه بقاؤه حبيس تصور خاطئ للعالم. غير أن أرسطو يعتقد أن “كل البشر بطبيعتهم يرغبون في المعرفة”، وهي جملة استهلالية في “الميتافيزيقا”، فتحت تاريخ رغبة المعرفة التي شغلت الفلسفة منذ العصور القديمة. ماذا يمكن أن أعرف؟ هل يوجد شيء ما في ما وراء التجربة التي حزتها؟ ما دور الإحساس والذاكرة والعقل؟ تلك الأسئلة الفلسفية يثيرها كتاب “أرض مجهولة” للفرنسي ألان كوربان. هذا المؤرخ اعتاد أن يسير في سبل غير التي سار عليها أهل الاختصاص، فبعد أن تناول الروائح والأصوات والسّماء والبحر والغيوم والصمت والشجر والعشب، اختار هذه المرة أن يتناول قضية المعرفة، ولكن من زاوية غيابها، أي الجهل. فالطريف أنه لا يقدّم هنا تاريخ ما يعرفه الإنسان بل ما لا يعرفه، ويبحث في جانب الخيال فيه والأسطورة والخوف أيضا. الكتاب يروي الصعوبات العديدة التي اصطدم بها الإنسان كي يكتشف أسرار الكوكب، فعلم الأرصاد الجوية في مطلع القرن العشرين مثلا كان يجهل أشياء كثيرة، وأعماق البحار والمحيطات كانت مجهولة حتى منتصف ذلك القرن، والجزء الأعلى للغلاف الجوّي لم يقربه الإنسان حتى بداية القرن العشرين، ولئن تحققت إنجازات علمية كثيرة في عصر الأنوار وبداية الثورة الصناعية، فإن معارف ذلك العصر كانت محدودة، بل إن موسوعة ديدرو ودالمبير لم تقدّم إجابة عن ظواهر طبيعية كثيرة كالزلازل والبراكين، ولم تزد شيئا ذا بال على معرفة العوام، التي كانت لا تزال تحتكم إلى الموروث الديني. فالسّرديات الدينية حول خلق العالم والطوفان وتفاسير أخرى للتيولوجيا الطبيعية كانت أجوبة بديلة لعدم وثوق العلم؛ والجهل، لكونه يتيح صلة بجلال الإله وفتنة الطبيعة ومشاعر النفوس، كان يحدّ من المعرفة، وهو ما يسميه كوربان “غواية الغامض”. طوال آلاف السنين، لم يكن البشر يعرفون شيئا تقريبا عن الأرض. كل فئة تكتفي بأوطانها ومناظرها الطبيعية وقراها، وعندما ظهرت الخرائط ظلت مناطق عديدة تبدو تحت لافتة “أرض مجهولة” لم تطأها قدم الإنسان، ولا يعرف ما فيها وما عليها، ولا ما فوقها. ومن ثَمّ كان تركيز الكاتب على الأرض وأسرارها، ولكن في فترة محددة، هي الفترة الممتدة بين 1750 و1900، ليتوقف عند ما امّحى من ألغاز وما بقي، غايته أن يكتشف الثابت والمتحول في أنماط إقامتنا في العالم. أنماط يتبدى فيها الجهل أفقا يصعب تجاوزه بصفة نهائية، فالعلم لا ينفك يزيل بعض غشاوته ولكن دون أن يزيله تماما، رغم أنها مرحلة تميزت بالتخلي تدريجيا عن المعتقدات التقليدية حول الظواهر الطبيعية، وظهور اكتشافات واختراعات غير مسبوقة. والكاتب لا يتبع خطية زمنية لمعاينة تقدم آخذ بعضه برقاب بعض، بل يكسرها متوخيا عملية عود على بدء للوقوف على ما في التجربة الإنسانية من انتصارات وانتكاسات. فقد جعل بحثه يتقدم وفق خطّة كرونولوجية وثيمية، فجمع ثلاث مراحل في ثلاثة أبواب: النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مرحلة 1800 – 1850، ومرحلة 1860 – 1900، وهي مراحل تتجلى فيها حركة معارف غير منتظمة، وتتناولها الفصول لطرح جملة من الأسئلة تكاد تكون هي نفسها عن عمر الأرض وبنيتها، وعن الأعماق البحرية، وجبال الجليد، والشّهب والنيازك. ولاحظ أن السابقين كانوا يصيبون حينا ويخفقون حينا، ويضلّون سواء السبيل في أحيان أخرى. ولذلك اختار كوربان الانطلاق من الجهل سعيا وراء المعرفة، وفي رأيه أن ذلك مسار تحرر يسمح للإنسان بتقدير وجوده حق قدره، والسيطرة عليه، خلافا للجاهل الذي يسلم أمره للتجربة الآنية، فينقاد للأحداث تسيّره. فالتأريخ للجهل يمكن أن يلامس الفزع المزدوج الذي يقابل ما يعترينا أمام عدم المعرفة بفزعنا أمام سعة المعرفة. وجملة القول إنّنا نجهل أشياء كثيرة، ونعيش في ظلمة لا نقدّر سعتها، لا نعرف عن أنفسنا وعن الأمراض وعن كوكبنا وعن الكون إلا القليل، وكلما حقق الإنسان فتحا علميّا باهرا، أو ازداد وعيا بمحيطه ومكوناته، اكتشف أنّ ما يجهله أكثر ممّا يتصوّر. وهو ما لخصة إسحاق نيوتن في قوله “معارفنا قطرة، وجهلنا محيط”.
مشاركة :