يتهكم جون نوتون مؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته حقا عن الإنترنت” على قرار شركة فيسبوك إنشاء محكمة داخلية للبت في المحتوى مكونة من عشرين شخصية عامة، معتبرا الأمر كما لو أن شركة إكسون العملاقة قررت إنشاء “أعلى محكمة للبت في قراراتها بفتح أو إغلاق مصافي النفط ومستوى انبعاث ثاني أوكسيد الكربون الذي ستسمح به”. يختصر نوتون، علينا جميعا بلغة المحلل التكنولوجي، فهم فيسبوك كشركة تكنولوجية غارقة في الظلام، وما تمثله بالنسبة لنا من معضلة أخلاقية! فهو باحث أيرلندي مرموق وأستاذ التكنولوجيا في الجامعة المفتوحة وكاتب دائم في صحيفة الغارديان البريطانية ومدير برنامج الزمالة الصحافية في كلية وولفسون وأحد أساتذة جامعة كمبريدج، والأهم من كل ذلك بالنسبة للمهتمين بالبحث في العصر الرقمي، أنه أكثر من قدم قراءات معمّقة لما يدور في شركة فيسبوك بوصفها إمبراطورية سياسية خارج حدود المسؤولية أكثر من كونها شركة تكنولوجية، فهي مسؤولة عن نموذج أعمال سام حققت تقدما مخيفا على مدار أكثر من عقد لتقويض المؤسسات والممارسات الديمقراطية على حد سواء. وقرار الشركة الجديد بتشكيل مجلس الإشراف على المحتوى من قبل عشرين شخصية، ينتظر أن يتضاعف عددهم إلى أربعين، لا يثير قلق جون نوتون وحده، بل إنه يمثل اتجاها أوسع كي تتنازل الهيئات السيادية والمحاكم والهيئات التشريعية عن سلطاتها لحساب الشركات التكنولوجية الكبرى مثل فيسبوك وأمازون وغوغل، بوصفها دولا رقمية عملاقة تدير العالم اليوم، وأن المجلس يمثل فكرة مثيرة للإعجاب بالنسبة لهذه الشركات في صعودها الذي لا يرحم، لإخفاء حقائق غير مرغوب فيها، فهي تريد أن تضع القضاة وتحاكم نفسها بنفسها!! سبق وأن أطلق نوتون لقب المرشد الأعلى لفيسبوك على مارك زوكربيرغ، بغير أن يتهكم عليه، لأنه يتكلم في رؤية طوباوية عن البشرية جمعاء، على اعتبار أنه رئيس جمهورية افتراضية مكونة من ثلاثة مليارات مستخدم. وتبدو اليوم أحدث محاولة بتشكيل مجلس قضائي للإشراف على المحتوى، لتأكيد أن فيسبوك قوة سياسية متضخمة. فالشركة بالأساس تقنية تعاني من وهم أنها دولة قومية، سبق وأن أعلنت عن عملتها الرقمية العالمية “ليبرا” لتكون البنك الدولي الذي يدير اقتصاد العالم في الظل، مع أن المشروع أصبح لحد الآن أشبه بموقع للمقامرة من دون أن تجذب “ليبرا” اهتمام المتعاملين بالعملات الرقمية، إلا أن زوكربيرغ كان يأمل بأكثر من ذلك تحت وطأة حاجة عصية على الفهم إلا بحدود الرغبة بالثراء، وتراكم المزيد من الأموال فوق ثروته الباهظة، لأنه اكتسب ثروة غير معقولة وهو غير مستعد لتقويضها. علينا تذكّر هنا مقولته الشهيرة عام 2012 “فيسبوك لا يعني لي مجرد شركة، بل بناء شيء يغيّر الواقع، ويحدث تغييرا فعليا في العالم”. الغريب أن العالم يبدو وكأنه منوّم مغناطيسيا حيال ذلك، فمن سيثق بالمال عندما يكون مصدره وأمين صندوقه فيسبوك، أليس مصطلحا ما بعد الحقيقة والأخبار الزائفة كبرا وتضخما مع تضخم فيسبوك أصلا. لا شيء مخيفا أكثر من أن تتحول شركة فيسبوك إلى أكبر مستبد في العالم لتبادل المعلومات، لذلك يجب أن تكون لديها محكمة خاصة بها، سبق وأن عينت الشركة نائب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نك كليغ بمثابة وزير خارجية ناطق باسمها. ومع أن كليغ نفسه يهون من وطأة هذه الفكرة بقوله إن المجلس الجديد مخوّل للإشراف على المحتوى المنشور مع ميثاق خاص به، سيعمل على السماح أو إزالة المنشورات على المنصة نفسها. لكن هذا التبسيط لا يمنع من أن تلك المجموعة من الشخصيات ستكون أشبه بمن يدافع عن فيسبوك نفسه وليس عنا وعما ما نريد قوله، بل إن بعضهم بقبوله الاشتراك في اللجنة قد التزم بتأييد الغرور المفرط لزوكربيرغ حول الأهمية المركزية لفيسبوك للعالم. وإلا كيف لنا أن نفهم قبول صحافي بارع ومسؤول مثل آلان روسبريدجر رئيس التحرير السابق لصحيفة الغارديان الذي بقي في موقعه أطول فترة لرئيس تحرير صحيفة بريطانية، ومدير معهد رويترز للصحافة حاليا، في نفس المنصة مع اليمنية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان التي لا تتردد بالإعلان علنا بأن “الإسلام هو الحل”! ذلك ما يشكل مفاجأة ليس لجون نوتون وحده، فقد أدخل روسبريدجر نفسه إلى ميدان سيرك، خصوصا عندما أعلن أن “مجلس الرقابة على فيسبوك هو أحد أهم المشاريع في العصر الرقمي” بيد أنه أمر يفتقر إلى الإقناع عندما ترى إيفلين دويك الباحثة في جامعة هارفارد، أنه بداية لتشكيل دساتير جديدة لتنظم طبيعة الخطاب عبر الإنترنت! كيف ذلك وفيسبوك ليس هيئة عامة بل شركة عالمية قوية وغنية لا تتمتع بشرعية ديمقراطية لإدارة ما يفكر به ويتوق له العالم في المستقبل. وإن أطلق ملايين المستخدمين على زوكربيرغ “القديس مارك” أو “آية الله” أو الشيخ زوكربيرغ وفق تعبير المستخدمين العرب. --لذلك يحذرنا نوتون من وقوع الديمقراطية ضحية اختراق متعمد من قبل الشركات التكنولوجية الكبرى. فوسائل الإعلام الاجتماعية تشكل تهديدا وجوديا لفكرتنا عن الديمقراطية، لأننا نسلم بإرادتنا لوحة المفاتيح الغامضة لمن يتلاعب ببيئتنا الإعلامية من الجهات الفاعلة الأجنبية والمحلية، وهو الوضع الطبيعي الجديد للعصر الرقمي الذي يربط علاقتنا مع بعضنا ومع العالم. يختصر جون نوتون كل ذلك بقوله إن الوحوش ما زالت تسرح على فضاءات فيسبوك، لكن هذا ليس سببا لفتح حديقة حيوانات للوحوش نفسها أمام الناس من أجل الفرجة أو حتى محاولة لتدجين المستحيل.
مشاركة :