يقف الكثير من العرب والمسلمين موقف الحائر أمام الروايات التاريخية التي تثقل كاهله بتداعيات الماضي، ويصر البعض على استجلابها في مواقع الصدام والصراع مع الآخر إلا أن المفكر العربي السيد ياسين له رؤية للتاريخ وحقائقه، إذ يرى أن إحدى الإشكالات الكبرى المعاصرة تتمثل في الموضوعية في كتابة التاريخ، وأضاف أن موضوع الذاتية والموضوعية شغل فلاسفة علم الاجتماع ردحا طويلا من الزمان منذ نشأة العلوم الاجتماعية، إذ وقع تركيز على مطلب الموضوعية تحت تأثير مؤسس علم الاجتماع الفرنسي (إميل دوركايم)، الذي قرر في عبارة قاطعة أن على الباحث العلمي ــ حين يتصدى لمشكلة بحثية ــ أن يتخلى عن تحيزاته وأهوائه، وعليه أن يدرس الظواهر الاجتماعية وكأنها أشياء، ويؤكد ياسين أنه مع مرور الزمن لم يصمد هذا الموقف المثالي أمام الممارسة العملية للعلماء الاجتماعيين، إذ تبين يقينا أن الموضوعية الخالصة تكاد تكون مستحيلة، لافتا إلى أن المؤرخ الماركسي الذي يدرس الوقائع التاريخية في بلد ما سيتأثر من دون أدنى شك بالإطار النظري للمنظومة التي يدرسها وبمقولاتها الذائعة، في حين أن المؤرخ الإسلامي سيسرد الوقائع نفسها بطريقة مغايرة تماما، وفقا للمسلمات الآيديولوجية التي ينطلق منها، ويتماهى ياسين مع عالم الاجتماع السويدي جونار ميردال الذي حل الإشكالية بعبارة حاسمة حين قال «الموضوعية هي أن تعلن عن ذاتيتك منذ البداية»، بمعنى أنه على عالم الاجتماع أيا كان توجهه أن يعترف منذ بداية بحثه أنه ينطلق من مبادئه، وأن عالم الاجتماع الوظيفي الذي لا يقبل مقولة الصراع الطبقي على إطلاقها عليه أن يعترف بذلك منذ البداية، ويذهب إلى أن المسلمة السائدة المتمثلة في أن الخطاب العلمي السوسيولوجي لا يمكن أن يكون موضوعيا بهذا المعنى، بل على العكس فإن الذاتيات المتعددة أو فلنقل الأطر النظرية المتنوعة من شأنها أن تثري البحث العلمي، ويتجاوز ياسين إشكالية الذاتية والموضوعية إلى تعدد أساليب كتابة التاريخ كون هناك مؤرخين محترفين لا يجيدون سوى سرد الوقائع التاريخية والتثبت منها من مختلف المظان والمصادر دون إطار نظري شامل ومن دون قدرة على تأويلها، وهذا النوع من الكتابة التاريخية ــ على الرغم من أهميته ــ إلا أنه أقل أنواع الكتابات شأنا، لأنه لا يعطي القارئ الاستبصار اللازم بالدلالات العميقة للأحداث التاريخية، وبالمقابل هناك مؤرخون محترفون ــ وإن كانوا ندرة ــ يمتلكون ناصية تسجيل الوقائع وتأويلها معا، وعلى رأس هؤلاء المؤرخ البريطاني (إيريك هوبزباوم) الذي كتب تاريخا فذا للقرن العشرين بعنوان (عصر التطرفات)، تبدو فيه أهمية تأويل الحوادث التاريخية لنصل من بعد إلى أزمة التقييم التاريخي للحوادث والوقائع المعروفة، والتي تشير إلى أن ما يسمى الحقيقة التاريخية قد تكون استعارة جذابة وإن لم تكن دقيقة تماما لأن الحقيقة التاريخية ستتوزع بين المؤرخين الذين ينتمون إلى آيديولوجيات ومدارس فكرية متعارضة.
مشاركة :