لم تعانِ الأمة الإسلامية في تاريخها بمثل ما عانت بسبب التكفير الذي يُعد أخطر عوامل الهدم داخل الجسد الإسلامي؛ إذ يشار تاريخياً إلى المنزلق التاريخي الذي أدخل واقع الأمة إلى أتون العنف ونير الفكر المأزوم حين نشأت ظاهرة الخوارج في المجتمع المسلم بعد فترة وجيزة من شروق شمس الهداية الإسلامية فيها قبل خمسة عشر قرناً. إنّ مسلك هذا الفكر يطلق العنان إلى الأذى كما يقول الباحث المصري الدكتور شحاتة صيام في كتابه العقل التكفيري حين يدرس بعمق وفي دراسة متأصلة لمعرفة المكوّن المعرفي الذي يوجّه سلوك العنف. وحين يتم تشريح هذا العقل السوداوي الخطير، يتم الوصول إلى نتيجة أنّ هذا الفكر لا يحمل إلا الظلامية ورفض الفكر المغاير وممارسة الإقصاء بأعلى مستوياته. إنّ الدراسات التي اعتنت بدراسات الجماعات التي ترتدي الدموية والعنف والبطش فكراً تؤكد أن طبيعة نشوء وتكوين هذا المنهج لا بدّ وأن يتحول من التكفير إلى التفجير أو الفجور. ويبدو في داخل بنيته أنه سطحي ومجادل بجهل، وليست يقينياته الشيطانية سوى بذور فكرية في صحراء قاحلة معرفياً من كل المعاني الإيجابية؛ لأن هذا النموذج كل مقدمات تشكله المعرفي سوداء، وبالتالي لن يأتي بخير على مستوى النتائج والواقع، وهو من أقرب مصاديق الآية الكريمة: (أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)، فإن الظلمات المعرفية أشد خطراً وأفتك أثراً، والتشكلات الفكرية لهذه الظاهرة منذ تولدها حتى ترويجها الشيطاني من خلال خوارج العصر بكل تفريعاتهم، وبغض النظر عن المسميات والعناوين التي يظهرون تحت ظلالها، لا يمكن إلا أن يتفق جميع العقلاء وذوو الحكمة والبحث الموضوعي على أن هذا الاتجاه الفكري هو اتجاه انشطاري، يفرّق ولا يجمع، يتفاصل ولا يتواصل، يمزّق ولا يوحّد، يكرّس القطيعة والعنف، ضمن أهم أدواته ومظاهر فعله نحو الإنسان والإنسانية. إن منظري هذا المسلك يمارسون وعبر آلية غسل هذه الأدمغة وبرمجتها السلبية من خلال آليات الطاعة العمياء والتلقين الأسود المستمر، فهم يكفرون الحاكم والأمن والناس في أي بلد وجدوا فيه، وهذه محنة كبرى كما يقول الباحثون في طبيعة هؤلاء المارقين. إن الثمار الإرهابية التي يحاول هذا الفكر نشرها تحتاج إلى ضرب شمولي لهذه المناهج المنحرفة والجماعات الإرهابية، فكرياً من خلال إيقاف كل ما يغذّيها إعلامياً ولوجستياً، وبالضرب بالقوة من خلال تصدي العالم الذي يتضرر من ظاهرة التكفير في الشرق والغرب والوسط من هذا العفن الشيطاني. وفي ظل غلواء ظاهرة التكفير التي تجتاح العالم، ولا سيما في العالم الإسلامي، تأتي الضرورة باستنفار جميع الطاقات والجهود الفكرية لمعرفة أسباب نشوئها وانتشارها وسبل معالجتها، ووضع سبل حماية المجتمع المسلم من فتن وشرور هذه الفتنة العمياء. ومما يجدر بالذكر، هو ما يوصي به عديد من الباحثين في هذه القضايا بإعطاء مزيد من الاهتمام لدراسات تعنى بالبحث التأصيلي والجهد الفكري والتنظيري الجاد، لتنقية ما يحاول أعداء الأمة من تلويث مجتمعاتنا بهذه النفايات الفكرية البائسة. إن ما يبديه كثير من العقلاء من روح التعاضد وتحمّل المسؤولية لتحقيق وعي إنساني أصيل في هذه المرحلة الحرجة هو صمام أمان وكلمة طيبة للوقوف ضد الظواهر السلبية وفي مقدمتها ظاهرة العقل التكفيري. إننا في شهر الرحمة والمغفرة، الذي يعبق بنفحات الخير، ويدعو إلى أبهى صور الحضور الإنساني الصالح مع الله تعالى ومع الناس، وما أروع أن نعمل على كل ما يعزز قوتنا، ويسدّ خلّتنا، ويفرّج كربنا، ويحقق لنا من الدنيا والآخرة آمالنا.
مشاركة :