تولى معهدُ الشرقِ الأوسط في الأسبوعِ الماضي إطلاقَ كتابي الجديد «عقد من الاضطرابات» الذي يتضمنُ نتائجَ استطلاعاتِ الرأي التي أجرتها مؤسسةُ زغبي للخدماتِ على مدى عشرةِ أعوام في منطقةِ الشرقِ الأوسط وشمال إفريقيا. كثيرا ما تُطرحُ الأسئلةُ حولَ الطريقةِ التي نعتمدها في إجراءِ استطلاعاتنا والمواضيع التي نركزُ عليها والجدوى من النتائج التي نحصلُ عليها. لذلك فقد ارتأيتُ أنه قد يكونُ من المفيدِ مناقشةُ هذه المسائل معكم أنتم، قرائي الأعزاء.لقد أهديتُ كتابي الجديد إلى مئاتِ العمالِ الميدانيين الذين أجروا الحواراتِ مع عشراتِ الآلاف من الأشخاصِ ضمن عينات عشوائية والذين أعطونا من وقتهم كي يجيبوا عن الأسئلةِ التي طرحناها عليهم. لولا هؤلاء العمالُ الميدانيون لما سمعنا تلك الأصوات ولما تعلمنا منهم.لقد دأبنا على إجراءِ استطلاعات الرأي عبر دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مدى أكثر من عقدين كاملين من الزمن وذلك سعيًا إلى تعميقِ فهمنا للطريقة التي ينظر بها هؤلاء الناسُ إلى أنفسهم وما يحملونه من انطباعات عن الدولِ الأخرى ومدى تأثير السياسات التي تنتهجها هذه الدول على حياتهم. لقد أجرينا استطلاعات الرأي لأننا نعتقد اعتقادا راسخا أن الرأي العام يكتسي أهمية كبيرة كما أننا أردنا أن نتأكد أن تلك الأصوات ستكون مسموعة. لقد سعدنا لأن الحكومات ومعاهد البحوث والدراسات والمؤسسات الإعلامية وكبار رجال الأعمال عبر دول المنطقة قد وقفوا على قيمة العمل الذي نقوم به وسعوا إلى مساعدتنا على قياس اتجاهات الرأي العام فيما يتعلق بالكثير من المسائل الحساسة والتي تشمل توفر وسائل النقل والرعاية الصحية والتعليم العام، وصولا إلى القضايا الأخرى المهمة والتي تتعلق بمستوى الرضا عن المؤسسات والخدمات الحكومية والثقة في المؤسسات الدينية.تفتح استطلاعات الرأي لنا نافذة مهمة تمكننا من سماع ما يقوله الناس. إن ما نسمعه وما نتعلمه يكتسي أهمية كبيرة لأنه يساعدنا كثيرا على تعميق فهمنا للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تماما كما نتعلم من خلال استطلاعات الرأي أن الأمريكيين اتجاهاتهم وانطباعاتهم شتى فيما يتعلق بالكثير من المسائل مثل الإعدام والهجرة والإجهاض. كذلك يختلف العرب والإيرانيون والأتراك في أفكارهم وآرائهم وهو يحملون في كثير من الأحيان آراء متباينة داخليا حول الكثير من المسائل الحساسة التي تواجه دولهم ومنطقتهم. يجب على صناع السياسة والمحللين أن يولوا اهتمامهم هذه المسائل والأفكار أثناء متابعتهم للسياسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو التعليق على التطورات الإقليمية دون أن يكون لديهم أي فهمٍ أو إدراك لطبيعة آراء وانطباعات الشعوب المعنية. فهناك الكثير من الأمثلة التي تظهر العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن سوء أو قلة أو انعدام فهم طبيعة آراء الشعوب واتجاهاتها وانطباعاتها.عقب إعادة انتخاب بنيامين نتنياهو نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا مطولا اعتبرت فيه أنه «مع انتخاب نتنياهو فقد الفلسطينيون الأمل» في أن يأتي يوم يتمكنون فيه من تحقيق حلمهم في إقامة دولتهم الوطنية المستقلة. في الحقيقة، أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريناها أن أغلب الفلسطينيين قد فقدوا الأمل قبل ذلك بكثير. هناك أيضا من يزعم أن الإيرانيين أكثر ميلا إلى الولايات المتحدة الأمريكية من بعض العرب من حلفاء أمريكا. لقد أكد النواب البرلمانيون الليبراليون والمحافظون على هذه النقطة بالذات في أكثر من مناسبة وذلك من أجل تبرير اختلاف المقاربات السياسية في التعامل مع الجمهورية الإسلامية. أظهرت استطلاعاتنا أن هذه المزاعم غير حقيقية. يمكن أن نذكر أيضا الكثير من الأمثلة الأخرى التي تظهر مدى خطأ بعض الآراء والمزاعم التي ظلت تشكل وجهات نظر المعلقين والمحللين وصناع السياسة الغربيين، وخاصة فيما يتعلق بكل من مصر والعراق، وقد أظهر مدى بعد وعدم فهم هؤلاء للرأي العام وهو ما أفضى إلى عواقب وخيمة على البلدان المعنية وعلى الغرب نفسه. على سبيل المثال لا الحصر، من الأهمية بمكان التركيز على درجة رضا اللبنانيين والعراقيين عن أداء حكومتيهما ومدى إحباطهم الناجم عن الدور الذي تلعبه إيران في كلا البلدين. أجرينا استطلاعات الرأي في هذه البلدان، وقد اعتمد أسلوب سبر الآراء وجها لوجه. لقد استعنَّا بعمل ميدانيين ودربناهم على الأسلوب الذي نستخدمه حتى تكون استطلاعاتنا ممثلة للرأي العام وتعكس المكونات الديمغرافية «مثل النوع والسن والتعليم والديانة» في كل بلد. لقد دربنا الفرق الميدانية العاملة معنا أيضا على الأسلوب الذي يتعين اعتماده في إجراء الحوارات، وقد استطعنا في نهاية الأمر أن نقف على اتجاهات الرأي العام في كل بلد بوجه عام كما تعمقنا في بعض المسائل ونقاط التباين، متى ما وجدت، ما بين المكونات الديمغرافية.إلى جانب استطلاعات الرأي المتعددة المضامين، التي دأبت مؤسسة زغبي على استخدامها، فقد اعتمدنا أيضا أسلوب استطلاعات الرأي ذات المضمون الواحد في مصر وتونس وإيران وإسرائيل/فلسطين، إضافة إلى سبر الآراء للوقوف على تطور اتجاهات الرأي تجاه إيران والولايات المتحدة الأمريكية وبقية اللاعبين الإقليميين والدوليين، إضافة إلى قياس جودة الحياة في بلدانهم والدور الذي يلعبه الدين في حياتهم. ترسم هذه البيانات والمعطيات صورة عن المنطقة التي تمر بمرحلة من التحولات. صحيح أن النتيجة التي ستفضي إليها هذه الاضطرابات غير واضحة حتى الآن، غير أنه يمكننا أن نتبيَّن إلى حد ما الاتجاه الذي تتجه إليه المنطقة من خلال تطور انطباعات شعوبها. إذا ما حللنا هذه البيانات والمعطيات فإننا سنتبين ما يختلج بهذه الشعوب من تطلعات وهواجس وما تقبل به هذه الشعوب وما ترفضه وتبديه من ثقة أو عدم ثقة في المؤسسات التي تشكل حياتها.كثيرا ما يقال إن استطلاعات الرأي تمثل صورة لاتجاهات الرأي والمواقف في لحظة معينة من الزمن. في الوقت نفسه يمكن القول إن إجراء استطلاعات للرأي على مدى عقد كامل من الزمن يخلق ما يمكن أن نسميه صورة متحركة تساعدنا على ملاحظة المواقف المختلفة الثابتة منها والمتحركة. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :