منذ فترة، بدأت بالاهتمام الشخصي بكل ما يتعلق بالبودكاست، والذي لم أكن أهتم له قبل أزمة كورونا، لكن ساعات المشي اليومي للتريض جعلتني أدخل هذا العالم بل وأتدرب على الإنتاج فيه ملتحقا بدورات "أون لاين" لأتعلم منها ما يتيسر لي تعلمه. البودكاست فيه التجارب والمشاريع الفردية، وفيه أيضا تلك المؤسسية التي يقف وراءها تمويل مؤسسي بإنتاج محترف يتضمن كتاب نصوص محترفين ومؤدين وفنيين ومؤثرات صوتية مملوكة وموسيقى خاصة وعقول تعرف تماما موضع الفاصلة والتنهد وعلامة التعجب! ومثل أي لعبة تحرير كما تعلمنا في سنوات عملنا المهني كصحفيين، فيمكن أن تلعب بذكاء وخبث على النص المكتوب لتسرب رسالة خلفها أجندة سياسية ما، وتلك لعبة لها أكثر من صيغة وشكل، وكذلك في الإعلام المرئي، أو المسموع، والبودكاست هو الوريث الشرعي لفنون الإذاعة، وفي تلك التوليفة من الإعداد والموضوع والأداء والإخراج والكلمات المدروسة، كثير من المساحة التي تتسع لتفاصيل هي بالضبط السكن المريح والمثالي لشياطين الإبداع. هذا الاهتمام بعالم البودكاست غير المنتشر في عالمنا العربي قياسا إلى الغرب، بدأته بمتابعة قنوات مدونات صوتية تابعة لمؤسسات معروفة، ومن بينها المدونات الصوتية "البودكاست" التي تنتجها قناة الجزيرة، وهو إنتاج مدروس ومشغول بعناية واحتراف في معظمه. طبعا استغربت أن أضعفه في المحتوى كان من نصيب السيدة خديجة بن قنة، وهي من هي بين نجوم الجزيرة على الشاشة وقد اختفت مؤخرا لأجدها تحتل مساحة صوتية صغيرة في إحدى مدونات الجزيرة الصوتية. بين تلك المدونات مثلا التي تنتجها الجزيرة، ما اختارت له اسم "رموز"، مع رسوم "لوغو" مميزة، وعناوين حلقات جاذبة، وفيه جهد حقيقي وورشة محترفين تبدأ بكتاب نصوص بكفاءات عالية وتنتهي بفنيين ينفذون العمل كمنتج صوتي يجذبك بكل ما فيه من تفاصيل، ذاتها التفاصيل بمساحات سكنية واسعة. كنت استمعت لحلقة سليماني، والمشغولة بعناية وجهد يراعي التفاصيل، هي طبعا ذاتها التفاصيل ذات المساحات السكنية المريحة للشيطان الحلقة التي أثارت الجدل في مدونة رموز كانت تلك الحلقة التي تحدثت عن "قاسم سليماني"، والذي قتل في مطلع عام 2020 في مطار بغداد على يد القوات الأميركية. الحلقة استفزت وأثارت غضب كثير من السوريين الذين رأوا في شخص سليماني مجرم حرب لم يوفر دمهم ولم يرحمهم في حربه مع النظام السوري ضدهم. وهي كذلك أثارت شهية خصوم الجزيرة وقطر، وهم بنفس الوقت خصوم إيران الأكثر ضراوة، فقامت قناة العربية بإثارة الجدل إعلاميا حول الحلقة متهمة الجزيرة بتمجيد سليماني وتعظيمه كبطل في الحلقة السماعية وترميز الرجل كحالة استشهادية! العربية (وهي القناة السعودية في إدارتها)، استقت صياغة خبرها نقلا عن هجوم إيراني رسمي عبر وكالة أنباء إيرانية احتفلت بحلقة الجزيرة السماعية عن سليماني، والوكالة الإيرانية أخذت من الحلقة السماعية ما يكفيها من زوادة منتقاة لتأكيد قدسية البطولة عند سليماني. يكفي في العالم العربي أن يبدأ مثل هذا الجدل لتقوم الدنيا ولا تقعد، حتى لو كان جدلا على رجل ميت، ومعظم نزاعات الحاضر العربي أساسها جدل لا ينتهي على أموات في الماضي. ♦♦♦ كنت استمعت لحلقة سليماني، والمشغولة بعناية وجهد يراعي التفاصيل، هي طبعا ذاتها التفاصيل ذات المساحات السكنية المريحة للشيطان. الطاقم المحترف، وهو محترف بحق، وضع إطارا عاما لحلقات سلسلة رموز وبشكل مسبق، وهو إطار يشبه حائط الدفاع الذكي، وقوامه أن الحلقات عبارة عن حوارية ثنائية الأداء، حيث يقوم المقدم بأداء يشخص فيه دور شخصية "الحلقة" بينما تقوم سيدة بدور "المدعي العام" فتعترض بمداخلاتها الاتهامية على حديث الشخصية، وتوجه له الأسئلة الاتهامية، هي بالضبط حيلة "محامي الشيطان" المعروفة، الشيطان الذي يسكن في كل التفاصيل ذات المساحات الواسعة والمدروسة في كل الحلقات. حوار الأداء الثنائي في حلقة سليماني كان سيكون عاديا لو لم ندقق أكثر في صياغات الأسئلة "التي تنفس فعلا عن غضب المنتقدين" لكنها لا تجد أجوبة مباشرة من الشخصية، أو مؤدي الشخصية بمعنى أدق، فالأجوبة تبتعد عن السؤال لتقود المستمع إلى فضاءات أخرى تخاطب عقله الباطن، لا وعيه العربي المتخم بالإنشائيات، فيصبح سليماني ـ على كل جرائمه وفظائعه ـ مشروعا مبتورا لتحرير فلسطين، ولو لم يقتله الأميركيون في بغداد (طبعا مع سرد تحريضي ضد سياسات واشنطن)، لكانت الصلاة في الأقصى جماعة يقودها مرشد الجمهورية وبجانبه قادة "حماس"! الحلقة السماعية للجزيرة لم تقل إن سليماني شهيد بصراحة ووضوح، لكنها جعلته رمزا مقاوما للظلم (على كل ظلمه)، والحلقة كانت أذكى بكثير من التقاط الوكالة الإيرانية التي انتقت منه ما تريد، وبالتأكيد أذكى من محرر الخبر في قناة العربية الذي استقى صياغته ردا على استفزاز الوكالة الإيرانية لا بقراءة أكثر عمقا لحلقة الجزيرة. وهو ما يجعلني أتساءل إن كان أي من الإعلام السعودي قادرا على تحليل وقراءة المساحات الشاسعة لكل الشياطين المبدعة في حلقة أخرى من ذات السلسلة، وهي حلقة " شيخ الإسلام ابن تيمية"، والتي دار فيها الحوار الأدائي الثنائي بتضليل تاريخي متعمد ليمسح عن ابن تيمية كل سجل الاتهامات بحقه وهي المثبتة في كل كتاباته وفتاويه، ولينتهي المستمع في المحصلة كأحد مريدي الشيخ، الذي هو كعراب للفكر الوهابي والسلفي المتطرف ( الفكر الذي قامت عليه شرعية المملكة العربية السعودية)، وهو أيضا أحد مصادر ومرجعيات سيد قطب، منظر الإخوان المسلمين الأشهر، ومعلم يوسف القرضاوي، الشيخ الداعية القطري ـ المصري المثير للجدل بفتاويه "السياسية" المدمرة. ♦♦♦ مخطئ من يعتقد أن العلاقة مقطوعة بين تيار الإخوان المسلمين "السني" ونظام الملالي في الجمهورية الإيرانية " الشيعي"، تماما مثل الخطأ التاريخي الذي رسخ الإخوان المسلمين كقيادة سنية، وأعطى الشرعية لطهران بقيادة العالم الشيعي. العلاقة بين الطرفين عقائدية واستراتيجية، حتى أن التسمية الرسمية للربيع العربي في الأدبيات الرسمية الإيرانية هي "الصحوة الإسلامية" وهي التسمية التي افترضت سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد الحكم في مصر وتونس (استثناء سوريا كان مصلحة إيرانية خارج حسابات الاستراتيجية). تلك العلاقة التي تجعل أغلب الأسس الفكرية للثورة الخمينية مستلهمة من فكر الإخوان المسلمين، مثلما صارت الثورة نفسها ملهمة لخيال تيار الإخوان في تطبيقها في العالم العربي. مخطئ من يعتقد أن العلاقة مقطوعة بين تيار الإخوان المسلمين "السني" ونظام الملالي في الجمهورية الإيرانية " الشيعي" أحد أهم الشخصيات التي أسست لمليشيات القتل في إيران، كان "مجتبي نواب صفوي" الذي أسس مطلع خمسينيات القرن العشرين في إيران الشاه منظمة "فدائيو الإسلام" الأصولية المسلحة، والتي كانت مهمتها الاغتيال والتصفيات، وقام مؤسسها مجتبي بزيارة القاهرة واستقبله الإخوان المسلمون باحتفالية لافتة، والتقى في زيارته سيد قطب الذي اتفق معه على مفاهيم الحاكمية والجاهلية والجهاد ضد "الكفار". مجتبي تم إعدامه عام 1956، لكن منظمته بقيت إلى أن قامت ثورة الخميني، وانتهت اليوم إلى مليشيات كان أبرزها فيلق القدس الذي قاده سليماني نفسه، محكوما بنفس فكرة الحاكمية والجاهلية والجهاد ضد "الكفار"!، ومن هنا يمكن فهم فرحة الإخوان المسلمين بثورة الخميني وقد حدثت، فزارت وفود منهم الخميني في باريس قبل عودته، ولم ينس الخميني وملاليه أن يقدموا التحية للإخوان ومشتقاتهم المتطرفة فاحتفوا بقاتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات وأطلقوا على أحد شوارع طهران اسمه" خالد الإسلامبولي". وريث "الدعوة الإخوانية" بجيلها الحديث ومنظرها الأكبر الشيخ يوسف القرضاوي، كان دوما وفيا لمبادئ سيد قطب ومؤمنا بذات المفاهيم في الحاكمية والجاهلية والجهاد ضد "الكفار"!، لكن بطواقم أكثر ذكاء وأدوات أكثر انتشارا من "الكاسيت" الإسلامي، فما قيمة الكاسيت اليوم أمام ثورة البودكاست، وحلقة عن سليماني لا تمجده مباشرة، لكنها تبرر له كل ما ارتكب باسم المعتقدات المقدسة والجهاد ضد "الكفار". لم تكن الحلقة ساذجة لتقول إن سليماني بطل أو شهيد! لكنها التفاصيل أيها السادة، تلك التفاصيل التي يسكن فيها الشيطان.
مشاركة :