عصا موسى اسمها الحلقة 28 من مسلسل "الاختيار" | سعد القرش | صحيفة العرب

  • 5/28/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لم يُستهدف بلد بحرب إعلامية كما تُستهدف مصر منذ إنهاء حكم الإخوان في 2013. والجديد في هذه الحرب ليس الاستثمار الخارجي ذا الميزانيات المفتوحة ببذخ وسفه، وإنما اعتماده على مصريين من إخوان ومتأخونين، وسلفيين ومتسلفنين، ومذيعين وصحافيين وممثلين، ومشايخ يحرصون على الظهور بعمامة الأزهر في فضائيات ترعاها تركيا. البعض من هؤلاء كوادر لهم قضية، والبعض مرتزقة يستحلّون أكل العيش مغموسا بدماء يحرضّون على سفكها منذ سنوات. وفي ظل عماء إعلامي رسمي يكاد يقضي على مهنة الصحافة، كسب هؤلاء أرضا وجمهورا، حتى إذا جاء مساء الخميس، 21 مايو 2020، وأذيعت الحلقة 28 من مسلسل “الاختيار”، فأبطلت كذب سَحَرة فضحتهم عصا موسى. حلقة مدتها ثلاثون دقيقة أذيعت بلا إعلانات ولم تتحْ للمشاهد التقاط الأنفاس، واستعاد فيها المخرج بيتر ميمي ملحمة البرث في شمالي سيناء في 7 يوليو 2017. كان التحدي كبيرا أمام أفراد وحدة عسكرية يهاجمهم إرهابيون أكثر عددا بأسلحة ثقيلة، ويتسلحون بكاميرا جاهزة لقنص أي عسكري حيا كان أو ميتا لتصويره، وتنتظر لحظة السيطرة على الموقع، ورفع علم داعش عليه، لكي يعلن التنظيم عبر الإنترنت سيطرته على أرض مصرية. في “غزوات” صغيرة سابقة للإرهابيين في سيناء، كانت فضائيات كارهة لمصر تبث الهجوم مباشرة، فهل دفع مموّلو الحرب بإعلاميّ يصاحب الإرهابيين، أم دربوا إرهابيا على التنسيق مع الكونترول، لبدء البث لحظة الهجوم؟ “غزوة” خاطفة لنحو 200 إرهابي محترف، خرجوا من مخابئهم واستقلوا بضع سيارات ذات دفع رباعي، لقتل ضباط وجنود انتهى صمودهم باستشهاد 20، وقتل 40 إرهابيا. الحلقة 28 من مسلسل “الاختيار” صورت تلك الجولة، ونسفت أوهاما وقع فيها صناع المسلسل بسذاجة في حلقات سابقة، بالنظر إلى الصراع باعتباره اختلافا في تأويل الدين، بل إن في المسلسل مشاهد أفرطت في تقديم الجيش كأنه جند الله الأكثر تديّنا، وما هكذا تصنع الدراما ولو كانت الحقيقة، في المعسكرات، تأخذ هذا المنحى الخاطئ. ويفترض أن تنتصر الدراما للدولة المدنية، وجيشها فوق الأديان، يحارب أعداء تصادف أنهم هؤلاء الخارجون على القانون، ومستحيل أن ينتصروا على الشعب. الأسوياء مسّهم سحر الحلقة 28 من “الاختيار”، وأيقنوا بقداسة الكلمات والدراما. عام 1936 وثّق الفرنسي جورج ديهاميل مشهدا دالّا في كتابه “دفاع عن الأدب”، وكان المؤلف طبيبا ميدانيا في الحرب العالمية الأولى، ورأى طبيبا “في منتهى القسوة، جافي القلب… مناظر البؤس والآلام والجراح لم تعد تؤثر فيه، وكان يحتفظ في أداء واجبه المخيف ببرود أرستقراطي تلونه السخرية… ولكن حدث يوما أن دخلتُ على هذا الرجل فدهشت إذ وجدته وقد أغرقت الدموع وجهه، وهو يقرأ كتابا عن الحرب، كتابا يقص عليه نفس ما كان يرى كل يوم وكل دقيقة. ولو أنني كنت أجهل قدرة الألفاظ لاستطعت أن أدركها في تلك الساعة”. المستبدون والإرهابيون يدركون قيمة الكلمة والفنون، ولكنهم يفتعلون اللامبالاة ويسخرون من الكتاب والفنانين. سئل محمد مرسي في برنامج تلفزيوني، قبل الانتخابات الرئاسية، عما إذا كان يستمع إلى الأغاني أو يشاهد الأفلام والدراما، فقال إنه يستمع في سيارته إلى الأناشيد الدينية الحماسية، وطلب تقريرا عن مسلسل “الجماعة”. الفقر الروحي يحرم صاحبه من حب الحياة، وينزع عنه نعمة التصالح مع النفس والتسامح مع الآخر. مأساة التصحّر النفسي تدفع الاستبداد إلى تحدي مؤلف ومنع رواية، والتضييق على ناشر، وحجب مواقع إلكترونية، وإخصاء الصحف الرسمية والخاصة، من أي رأي يناقش سياسات الحكومة. ويكفي إلقاء نظرة على المشهد الإعلامي والصحافي المصري للترحم على مهنة تحتضر. في السنوات الأخيرة أُحكمت القبضة على الخيال الدرامي في مصر، بوضع قواعد صارمة لانتقاء المرضيّ عنهم، واستبعاد المغضوب عليهم، ممثلين وكتابا، ولم يكن لشركة خاصة أن تخاطر بإنتاج مسلسل يتأكد لأصحابها صعوبة بيعه وعرضه، في ظل احتكار الإنتاج الموجّه، وامتلاك الفضائيات. وأفرخت الفضائيات مذيعين يرددون الخطاب نفسه، ولم يسهم خطابهم الانفعالي السبابي إلا في المزيد من اللجوء إلى قنوات الإخوان ذات الهوى التركي، ومتابعة الدراما التركية. وكان مذيعون وعناصر إخوانية في تركيا يشيدون بحكمة رجب طيب أردوغان في حماسته لإحياء المشروع العثماني بالدراما. ثم أصابهم النجاح الشعبي لمسلسل “الاختيار” بالجنون، فانهالوا عليه انتقادا، بل قال أحدهم إن “قتل الضباط والجنود ليس جريمة”. نجاح مسلسل “الاختيار” يؤكد أمرين: أولهما أن ثلاثين دقيقة، هي مدة حلقة واحدة، يتحقق فيها الصدق الفني لها تأثير داخلي وخارجي أعمق من برامج فضائيات رسمية غير مقنعة، وخصوصا غير المصريين، طوال سنوات. وثانيهما أن هذا الصدق أسهم في فضح التقية الإخوانية، وأظهر الوجه القبيح للبنية الفكرية المؤسسة للإرهاب، فقال أحدهم إن “الجيش المصري معاد للإسلام”، وهي جملة لم يجرؤ أحدهم على أن يصف بها جيش أردوغان حين دنّس أرضا عربية في سوريا. وقال آخر إن الإرهابي هشام عشماوي ولو افترضنا أنه “قتل من الضباط والعساكر آلافا مؤلفة، هل هذا يعدّ سببا وجيها لإعدامه؟ الإجابة: لا”. الاستبداد مرهون بوجود الإرهاب.

مشاركة :