تبدأ منشورات المتوسط في ميلانو بإيطاليا العمل على إعادة إنتاج ترجمة حسن عثمان لكتاب "الكوميديا الإلهية" لدانتي أليغييري، حيث كلَّفت لجنة علمية ببدء العمل على المشروع تتألف من كبار الأكاديميين والمترجمين المتخصصين في ترجمة التراث بين اللغتين الإيطالية والعربية، وهم: أمارجي (الاسم الأدبي للشاعر والمترجم السوري رامي يونس)، أماني فوزي حبشي (مترجمة مصرية)، إيدّا زولّو غراندي (أستاذة اللغة والأدب العربي في جامعة البندقية)، عز الدين عناية (أستاذ جامعي تونسي ومترجم عن اللغة الإيطالية)، گاصد محمد (كاتب ومترجم عراقي) نجلاء والي (باحثة ومترجمة مصرية)، ماريّانا ماسّا (مترجمة إيطالية)، ووائل فاروق (ناقد وأكاديمي وشاعر ومترجم مصري). تأتي هذه الخطوة لإعادة إحياء رائعة دانتي أليغييري عربياً، والتي شكّلت فجر عصر النهضة الأوروبي، ولم تفقد ألقها وتأثيرها المستمرّ في أجيالٍ متعاقبة من الأدباء والمفكرين والفنانين الذين أغنوا مرجعياتهم الفنية واللغوية بقراءة هذا العمل الفريد، في لغاتٍ لا حصر لها عبر العالم، وبترجماتٍ عديدة في اللغة الواحدة. قسّم دانتي "الكوميديا الإلهية" إلى ثلاثة أقسام: الجحيم، المطهر، والجنة الأرضيّة والسماويّة، وتضم 100 أنشودة متكاملة، في الجحيم 34 أنشودة، وفي كل من المطهر والجنة 33 أنشودة. وتبدأ رحلة دانتي بما هو مبغض ومزعج في بيئة الجحيم، حيث هناك وادي الظلمات ووادي العذاب الأليم، كما أنّها تقع في باطن الأرض البعيدة من سماء الآلهة، فتسقط الأرواح كالأوراق الجافة التي فارقت غصونها، فيعبرها دانتي مع الشاعر فرجيل، رمز الحكمة الشعرية، ويتجولان معًا في الطبقات السبع، ثم يتصادفان بالدرك الأسفل حول بيئة الشيطان التي تقع في أبعد بقعة من الآلهة، وتعرف بمنطقة الزمهرير. وبعد مرور يومين من الرحلة يصل الشاعر إلى المطهر ويستغرق فيها أربعة أيام، فتتمثل له بجبلٍ في الأرض يقابل منطقة الجحيم وله قمة بارزة، يقع في مركز الأرض، والمطهر ذو سبع مناطق، وفيه يكفّر المذنبون عن ذنوبهم، ويختلفون عن سكان الجحيم بأنهم قد تابوا إلى آلهتهم، ولذا فإنّ أملهم في النجاة يكاد يكون سبيلهم إلى النعيم، بحيث إذا نجت أرواح من المطهَّرين ترحّلت إلى عالم الخلد والجنان، مكان السلام والجمال والضوء والخير اللانهائي، فيهتز الجبل كله ويصبح الجميع ممجدين، وفي قمة الجنة الأرضية تظهر حبيبته رمز الحب والجمال التي أحبها حبًا طاهرًا خالدًا، وهنا يودّع فرجيل ليصحب محبوبته في السماوات السبع ذات الكواكب المتحركة، ثم يطيران إلى عرش الآلهة حولها تسع دوائر من لهيب، فيها جوقات الملائكة تسبّح للآلهة وعظمتها في ألوان ومناظر مبهرة، إلى أن يصلا إلى السماء العاشرة حيث تتكون من أربع مناطق تسكنها الأرواح الخالدة المضيئة.وقد بدأ الاهتمام العربي بـ"الكوميديا الإلهية" منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، وظهرت فيما بعد أكثر من ترجمة واحدة له، أضافت كلها إضاءات جوهرية ومهمة على العمل الأدبي الأهم في تاريخ الأدب الإيطالي إن لم يكن العالمي. لكن من بين هذه الترجمات كلها، تظل ترجمة حسن عثمان، المؤرخ وأستاذ التاريخ الإسلامي والأوروبي، هي الأكثر إغراءً والألمع وذلك لأسباب كثيرة. وقد تفرَّغَ حسن عثمان لدراسة دانتي، و"الكوميديا الإلهية" خاصة، مدة 10 سنوات من 1941 حتى 1951، حيث شرع بترجمة "الكوميديا الإلهية"، والتي استغرقته ثماني سنوات أخرى. واصل خلالها السفر على نفقته الخاصة، وتارةً كانت "اليونيسكو" تغطي له بعض تلك النفقات، فزار مصادر العلوم التي نهل منها دانتي، وتتبّع آثار الشاعر وأسفاره، وعايش الأماكن التي عاش فيها، وخاض في الفنون التشكيلية وفي الموسيقى لدراسة ذائقة دانتي الفنية والموسيقية. وإذا كان المختصون قد اختلفوا على المدة التي استغرقها دانتي في كتابة "الكوميديا الإلهية"، فمنهم من قال 24 سنة، ومنهم من ذهب إلى 22 سنة، فمن المؤكد أن مترجمها إلى العربية حسن عثمان استغرقته 18 سنة، وهو باحث قبل أن يكون المترجم، من رواد منهج البحث التاريخي، وكتابه المعنون بـ"منهج البحث التاريخي" يُعد مرجعاً أساسياً في اختصاصه حتى أيامنا هذه، وقد تمكن من تطبيق هذا المنهج في اشتغاله على ترجمة كتاب "الكوميديا الإلهية"، الذي يأتي تصنيفه الثاني بعد الكتاب المقدس غربياً. ولهذا السبب تجاوزت ترجمته له الترجمة بحد ذاتها، وجاءت النتيجة أن القارئ أمام دراسة تاريخية شاملة لفترة حاسمة في تاريخ الفكر الإنساني، وهي لحظة بزوغ عصر النهضة. وعليه، لا يأتي هذا المشروع احتفاءً بدانتي وبـ"الكوميديا الإلهية" فحسب، بل أيضاً بهذا المترجم الاستثناء، ليس عربيًا فقط وإنما عالميًا، ولعل دار النشر تنجح بتحقيق آماله التي زرعها في نهاية ترجمته للكوميديا الإلهية حين قال: "وبعدُ، فإني أؤمل أن يأتي من بعد مَنْ يدرس، ويرتحل، ويصبر، ويستوعب، ويتأمل، ويستلهم، ويمسك باليراع لكي يعبّر عن دانتي في صورة أوفى وأجمل!".سيبدأ المشاركون العمل على الترجمة، كما أشارت دار النشر، منذ الآن، حيث شُكّلت لجنة علمية من مجموعة مترجمين متخصصين في ترجمة التراث بين اللغتين الإيطالية والعربية تساندها مجموعة من الأكاديميين المتخصصين في تاريخ القرون الوسطى وآدابه ولاهوته، وفي لغة دانتي والبلاغة الجديدة التي أسس لها، والآثار التي تركتها إلى اليوم على الآداب والفنون الغربية، وأخيراً في الأدب المقارن، حيث تتتبع آثار الثقافات الأخرى في "الكوميديا الإلهية"، وآثارها العابرة للغات على الثقافات الأخرى. وسيخرج أعضاء هذه اللجنة بتصور مشترك حول ما ينبغي تقديمه من إضافة وتحديث على النص، مستندين على الدراسات الحديثة التي صدرت وتناولت "الكوميديا الإلهية" في السنوات الأخيرة. باختصار هم سوف يدرسون، ويرتحلون، ويصبرون، ويستوعبون، ويتأمَّلون، ويستلهمون، ويمسكون باليراع لكي يعبّروا عن ترجمة حسن عثمان في صورة أوفى وأجمل والتي بالتالي ستعكس صورة أجمل وأوفى لدانتي، حسب تعبير منشورات المتوسط، التي تطلق مشروعها هذا ونحن على بعد شهور قليلة من حلول الذكرى الـ700 لوفاة دانتي أليغييري، وتأمل الدار أن يرى مشروعها النور مع حلول ذكرى وفاة حسن عثمان الخمسين، والتي ستحل عام 2023. يُذكر أن دانتي كتب "الكوميديا الإلهية" أثناء وجوده في المنفى بفلورنسا بين سنة 1302 وموته سنة 1321، وهي أول عمل مهم يُكتب بالعامية الإيطالية على طريقة "التيرزا ريما"، التي تتكون من أبيات ثلاثية النغم اخترعها المؤلف، وجعل بدايتها في الخميس المقدس 1300 حين كان يبلغ من العمر 35 عامًا، وأشار إلى بلوغه منتصف العمر في الأبيات الافتتاحية من القصيدة.
مشاركة :