"سيبيرج": فيلم عن قتل النجومية ونزعة الانتقام | طاهر علوان | صحيفة العرب

  • 5/29/2020
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

المبدع قابض على النار أو النار التي أشعلها الآخرون تستعر من حوله. تلك هي النار التي تحيط بممثلة شابة وهي تؤدي دور امرأة متّهمة بالهرطقة، وهي ليست إلا القدّيسة جان دارك ذات التسعة عشر ربيعا التي قادت جيش فرنسا في مواجهة الغزو الإنجليزي، ثم كان جزاؤها الحرق بالنار، فيما الممثلة الشابة التي تؤدّي الشخصية سوف لن تنجو بدورها من تلك النيران أيضا. لندن – جين سيبيرج ممثلة شابة تم اختيارها لتؤدّي دور جان دارك من بين الآلاف من الفتيات المرشّحات لتأدية الدور، وهي المرة الأولى التي تقف فيها أمام الكاميرا، وذلك في الفيلم الذي حمل اسم القديسة جان دارك للمخرج الأميركي أوتو بريمينكر. ذلك هو المشهد الأول من فيلم “سيبيرج” الذي نحن بصدده، والذي يخلّد سيرة الممثلة جين سيبيرج للمخرج الأسترالي بينيدكت أندروز ومن إنتاج عملاق الإنتاج الهوليوودي يونيفيرسال وبمشاركة شركات ومنتجين آخرين. مناصرة السود جين سيبيرج ● ولدت في الولايات المتحدة في العام 1938، وتوفيت في فرنسا في العام 1979. ● مثلت في أكثر من 30 فيلما ما بين الولايات المتحدة وفرنسا. ● أول أفلامها عن سيرة جان دارك (1957)، وآخرها فيلم "البطّ البري" (1976). ● سيرتها قدّمت صورة بشعة لما ارتكبته المباحث الفيدرالية في حقّها، وهو ما تم الكشف عن تفاصيله لاحقا. من مشهد حرق جان دارك إلى صيف وخريف العام 1968، حين اندلعت أكبر ثورة طلابية في فرنسا حيث كانت جين (تؤدي الدور الممثلة كريستين ستيوارت)، وحيث تودّع جين زوجها الفرنسي كاتب السيناريو والمنتج رومين غاري (الممثل إيفان أتال) وطفلها لغرض السفر إلى لوس أنجلس أين ستكمل مشوارها الفني في التمثيل. على الضفة الأخرى، وفي الولايات المتحدة وفي الزمن ذاته تكون قد اندلعت انتفاضة السود للمطالبة بالحقوق المدنية، وظهرت إلى العلن حركة الفهود السود التي عدّتها الحكومة الأميركية تنظيما إرهابيا. لكنّ جين سوف تتضامن مع الحقوق المدنية للسود، ولسوف تظهر أمام وسائل الإعلام وهي ترفع قبضتها مع حشد من الثوار السود وتعلن عن تبرّعها السخي لهم. ومن هنا سوف تنطلق جذوة الصراع القاسي والمرير ما بين جين التي تكافح من أجل مبدأ، وتعلن أن الانتفاضة ضد الحرب في فيتنام هي امتداد لانتفاضة السود، وعندها تصبح جين هدفا رئيسيا من أهداف المباحث الفيدرالية (أف.بي.آي) بما يوجب تحطيمها وتشويه سمعتها وتدمير حياتها بجميع الوسائل. ويعرض الفيلم جزءا وثائقيا مهما يقدّم جانبا من التصعيد في ما يخصّ حركة العصيان والحقوق المدنية وصراع السود من أجل نيل حقوقهم في المساواة والعدالة الاجتماعية. والحاصل أن جين تصبح امتدادا لذلك الحلم الإنساني، حتى أنها تستضيف في منزلها بعض اجتماعات قادة الفهود السود، ممّا يزيد الأمر تعقيدا. دوامة الضياع تنشأ قصة حب في الزمان والمكان الخاطئين ما بين جين وبين الناشط المسلم، حكيم جمال، ابن عم الزعيم الأسود، مالكوم اكس (يؤدي الدور الممثل أنتوني ماكي)، ولا تلبث تلك العلاقة أن تصبح إحدى نقاط ضعف جين التي تنفذ من خلالها أجهزة المباحث الفيدرالية لضربها في الصميم، وخاصة بعد تسرّب خبر حملها. وفي تتبّع سيرة جين سوف يتمّ تكريس جانب مهم للقاءاتها مع حكيم وصولا إلى انكشاف تلك العلاقة من قبل زوجته، حيث تتولّى المباحث الفيدرالية مهمة الوشاية، فضلا عن انكشاف الأمر لدى زوج جين نفسه، وبذلك سوف تدخل في دوّامة قاسية وضياع كامل وبالتزامن مع حملة إعلامية شرسة لم تخل من العنصرية. واقعيا، كانت تلك العلاقة قد ضربت على وتر حسّاس، ألا وهو العلاقة بين امرأة بيضاء وذات حضور اجتماعي رفيع ومؤثر في المجتمع وبين شخص من السود تطارده السلطات، ولأسباب عنصرية سوف يتحوّل صيت تلك العلاقة إلى العار بعينه، ولاسيما مع نشر صور ورسوم مشينة في حق جين. وفي إطار المعالجة الفيلمية لتك الإشكالية الاجتماعية وبسبب منح الفيلم مساحة أخرى لعمليات أجهزة المباحث الفيدرالية، سوف تغيب تفاصيل كثيرة من تلك السيرة الغزيرة والعميقة لجين، ولاسيما في مواكبتها للانتفاضتين سواء في فرنسا أو في أميركا. على أن قصة الحب تلك سوف تنتهي بالإجهاض الذي تتعرّض له البطلة، ثم تعلن في مؤتمر صحافي أنها ملاحقة من جهة ما جعلت حياتها جحيما. وتؤدّي الممثلة كريستين ستيوارت ذلك الدور بإحساس إنساني عميق على الرغم من أن انتقادات وجهت لها ضمن تقييم الفيلم. لكن في ما يتعلّق بمساحة الأحداث التي تحرّك بموجبها سيناريو الفيلم بدت متميّزة في أداء دورها. صراعات خفية حركة الاحتجاج من فرنسا إلى أميركا حركة الاحتجاج من فرنسا إلى أميركا وتحتل عمليات المراقبة التي تقوم بها أجهزة “أف.بي.آي” مساحة مهمة من الفيلم وموازية لمجريات حياة جين، ويجري التركيز على العميل جاك (الممثل جاك أوكونيل) الذي يتولّى ملف جين، فنجد عملاء المباحث بأجهزتهم القديمة، والتي كانت حديثة في ذلك الزمن، والخاصة بالتنصّت يتفرّغون لتسجيل آلاف الساعات لجميع تحرّكات وأحاديث جين ولقاءاتها، ومنها ما يتمّ تسريبه إلى الصحافة الأميركية لتتولى إكمال المهمة بالإجهاز على جين. ويعيش جاك حياة اجتماعية بسيطة. لكنه وهو يمضي في مهمة التجسّس على جين والتعرّف على أدق تفاصيل حياتها يشعر بالتعاطف بشكل ما معها، ما يدفعه إلى الاتصال بها لتحذيرها بالتوقّف عمّا تقوم به لئلا تتحطّم حياتها بالكامل. ولكنها ترفض ذلك جملة وتفصيلا. هذا التحوّل في الدراما الفيلمية بإيجاد خط سردي مواز قدّم لنا نظاما أميركيا فظيعا لتحطيم الخصوم، وعرض علينا أيضا صورة بشعة للانتقام وذلك في إطار ما عرف بمشروع كوينتيلبرو، الذي انطلق في العام 1956، ولم يتوقّف حتى مطلع السبعينات، وهو مشروع العمليات السرية للمراقبة واختراق الحياة الشخصية ثم التهديد وتدمير السمعة والحياة الاجتماعية لجميع أعضاء التيارات الثورية المطالبة بحقوق السود والحقوق المدنية، وشمل ذلك الأقليات وزعماءها مثل مارتن لوثر كينغ ومالكوم اكس وغيرهما. وما لم يكن متوقّعا وبعدما تهجر جين الولايات المتحدة إلى غير رجعة لتعيش في فرنسا بشكل نهائي، أن يلحقها الجاسوس جاك، ليقدّم لها ملفها الشخصي الذي انتزعه من أدراج المباحث الفيدرالية في نوع من صحوة الضمير كما يبدو. لكن ذلك التحوّل المهم لم يكن ذا قيمة بالنسبة إلى جين لأن حياتها هناك تكون قد انتهت ولا رجعة فيها. سيرة ذاتية إشكالية الفيلم أغفل محطات مهمة من حياة سيبيرج السينمائية الفيلم أغفل محطات مهمة من حياة سيبيرج السينمائية تستند جين إلى مسيرة سينمائية مؤثرة وعميقة، فهي وإن كانت قد واكبت انتفاضتين ثوريتين في كل من فرنسا وأميركا، فإنها انضمت إلى انتفاضة سينمائية عالمية متمثلة في ما عُرف بالموجة الجديدة في السينما الفرنسية، والتي كان من أبرز علاماتها المخرجون المنظّرون جان لوك غودار وفرنسوا تروفو وجاك ريفيت وإيريك رومر وكلود شابرول. في عام 1960 كانت جين تقف إلى جانب جان بول بيلموندو في أحد أهم أفلام الموجة الجديدة في السينما الفرنسية للمخرج جان لوك غودار، وبالطبع يأتي هذا الفيلم بعد نفور جين من هوليوود وصراعها المضني مع عمليات التحريض ضدها. لكن مسارها السينمائي في جانبه الفرنسي والذي اشتمل على العديد من الأفلام لم يتم التطرّق إليه في هذا الفيلم، حيث بلغت حصيلة منجزها 34 فيلما طيلة حياتها القصيرة التي امتدت لأربعين عاما. كريستين ستيوارت أدت شخصية سيبيرج بإحساس إنساني عميق، رغم الانتقادات التي وجهت إلى الفيلم في ما يتعلّق بمساحة الأحداث المنقوصة كريستين ستيوارت أدت شخصية سيبيرج بإحساس إنساني عميق، رغم الانتقادات التي وجهت إلى الفيلم في ما يتعلّق بمساحة الأحداث المنقوصة وفي المقابل، نجد أن هذه السيرة هي سيرة الصراع مع الجبابرة الخفيين الذين كانوا يتنصّتون عليها وجعلوا حياتها جحيما إلى درجة أنها تعيش فوبيا أجهزة التجسّس لتقلب بيتها رأسا على عقب علّها تعثر على ما تم زرعه من أجهزة، فهي تصارع أشباحا وعلى يقين من أنهم يزورون بيتها بمجرد أن تخرج منه لأداء أي عمل، وهو ما تتأكّد منه بنفسها بوضع لواصق على الأبواب. وتشاهده جين في لقطات يبدأ بها الفيلم وينتهي بها، وهي محاصرة ومعزولة وبلا سند، إضافة إلى حملات كسرها من قبل أجهزة الدولة بلا هوادة في صراع غير متكافئ يأتي على حساسيتها الفنية ووجدانها، فهي ليست ندا لمثل تلك الصراعات فما هي إلّا مدافعة عن الحقوق المدنية، لا أكثر. وفي خلال تتابع مراحل الأزمة سوف نشاهد مراحل انكسار جين وهي تذوي تدريجيا وتشعر بمرارة مأساة ما عاشته، وحيث تلاحقها الإشاعات والصحافيون في كل وقت، ولهذا تكون فرنسا ملاذها الأخير لتموت هناك ميتة غامضة قيل إنها انتحار حيث وجدت في سيارتها بعد اختفائها لأيام عديدة. ولا شك أن هذا النوع السينمائي المتمثل في السيرة الذاتية يعمد إلى التوقّف عند محطّات انتقائية بالغة الأهمية، وذلك بحسب ما تتمّ كتابته في سيناريو الفيلم. وفي هذا الفيلم وكما أشرنا سلفا، هنالك قضيتان إشكاليتان تمّ التركيز عليهما، وهما علاقة جين بحركة الفهود السود وما فعلته أجهزة المباحث الفيدرالية لتدميرها، أما عدا ذلك فقد تم إغفال الكثير من سيرة تلك الممثلة المبدعة. واقعيا هي ليست سياسية، لكن هذا الفيلم – السيرة يكاد يقدّم لنا جانبا من سيرة امرأة سياسية معارضة، وحتى علاقتها مع حكيم جمال لم تكن مبنية بشكل عميق، بل اقتربت من النزوة، لتبدو جين في دور العشيقة أكثر منها علاقة حب مرتبطة بالمبدأ، وليس بالخيانة الزوجية التي ارتكبها الاثنان فيما هما يناضلان من أجل الحريات المدنية.

مشاركة :